في الوقت الحاضر ليس في سورية إلا القليل من السجناء السياسيين ممن حكمت عليهم المحاكم بالحبس سنين معدودات، أما الأغلبية الساحقة من الحالات أو القضايا كما رأينا سابقاً، فإنها لا تعدو احتجاز الناس وحبسهم ببساطة تامة من غير ما تهمة أو محاكمة تقدر مدة الحبس، فالزمن غير محدد. هناك من حوكم فعلاً وحكمت عليه المحكمة بالحبس سنين معدودات إلا أنهم بقوا في السجن على الرغم من انقضاء مدة محكومياتهم منذ مدد مختلفة بل طويلة، من بين الفئة الأخيرة من السجناء الذين حكمت عليهم المحاكم في شهر آب عام 1971 بادعاء محاولة قلب نظام الحكم بالتعاون مع العراق وممن حكمت عليهم المحكمة سجناً لمدة (15) سنة، هم: جلال الدين مصطفى مرجح، ومصطفى توفيق فلاح، وحسين طاهر زيدان، ومحمود محمد الفياض، هاهم الآن في سجن المزة وقد مضى عليهم فيه أربع سنوات بعد انقضاء مدة محكوميتهم الأصلية.
هناك أيضاً سجين آخر حكم عليه بالسجن خمسة عشر عاماً في الفترة نفسها، وهو كاتب سوري وضابط سابق يدعى خليل بريّز، لما يزل في السجن ولم يطلق سراحه بعد، بل إن السجن الذي يقبع فيه غير معروف حتى الآن.
وفي جميع الأحوال يبقى السجناء في الحبس مدداً تقررها الإدارات والسلطات التي تأمر بالحجز، إذ يطلق سراح بعض السجناء بعد أسابيع من انقضاء محكومياتهم أما الأكثرية الساحقة فيطلق سراحهم خلال أشهر أو سنة بعد انقضاء مدة محكومياتهم، وفي موجة اعتقالات كاسحة في الفترة بين 1987 و 1988 على سبيل المثال، ألقت السلطات القبض على أكثر من ألفين من المواطنين الذين ادعت بأن لهم ارتباطات مع أحزاب الجناح اليساري من المعارضة، وعلى وجه التخصيص حزب العمل الثوري في جميع المدن السورية الكبيرة، ولكن بعد مضي عام على حجزهم تقريباً أطلقت السلطات سراح (1200) محتجز، وتركت الثمانمائة الآخرين داخل السجون محتجزين لمدة غير معلومة.
يعرف عن المخابرات، كذلك، لجوؤها إلى حجز السجناء السياسيين لمدد وآجال طويلة، بل طويلة جداً، فمحمود بيدون المحامي اللبناني الذي اختطفته القوات السورية في لبنان في سنة 1971 مازال في سجن المزة يقضي مدة جاوزت الثمانية عشر عاماً كما يقال، وكل جريمته أنه يصدر جريدة لبنانية أيدت نظام صلاح جديد وتسلمت مساعدات مالية سورية، وعندما أتى أسد إلى السلطة طلبوا منه إعادة جميع الأموال التي تسلمها، إلا أنه رفض ذلك وبدأ يعاني من نتائج هذا الرفض.
مازال العشرات -وربما أكثر من مائة شخص- ممن احتجزوا أثناء مطلع عقد السبعينيات وفي أوسطه أو منتصفه في السجون ولم يطلق سراحهم بعد، وبالإضافة إلى أولئك الذين احتجزوا وحوكموا في العام 1971 في بدء عهد أسد، فإن كثيراً آخرين ممن اعتقلوا واحتجزوا من دون محاكمة في فترة لاحقة من عقد السبعينيات مازالوا في الحجز، منهم عدد لا بأس به من البعثيين المناصرين للعراق والمؤيدين له.
أما الأعداد الغفيرة الأكثر من كل ما سبق، ممن يصل عددهم إلى ألفين عداً على الأرجح، فقد تم احتجازها وحبسها منذ الاعتقالات الجماعية في الفترة من العام 1980 حتى العام 1982(36) هناك على سبيل المثال (86) مهندساً و(90) شخصاً من ذوي المهن الطبية مازالوا في السجن منذ نيسان سنة 1980، كذلك بقي معهم في السجن عدد من الطلبة والكثير من الإسلاميين الذين اعتقلوا في تلك الفترة معاً.
كان مألوفاً وشائعاً لدى العوائل السورية وأصدقائها حتى عام 1980 أن بالإمكان (شراء) إطلاق سراح السجين، خاصة إذا لم يكن من الشخصيات المهمة في البلد، بمبلغ يعدل بضعة آلاف من الدولارات،و أما اليوم فإن من النادر أن يحصل السجناء على حريتهم بإطلاق سراحهم بهذه الطريقة، بل إن ما يقال في هذا الصدد يشير إلى أن أوامر إطلاق سراح السجين لا تخضع إلا لتوقيع حافظ أسد شخصياً(37) وعلى الرغم من ذلك فإن ما يجري في سجون جزء لبنان الخاضع للسيطرة السورية هو نفس الممارسة الخاصة بشراء حرية السجين، وما زال هذا الواقع مستمراً وشائعاً مما أدى تماماً إلى إثراء كثير من ضباط المخابرات حتى (التخمة)، وعلى حسب ما جاء في بعض التقارير فإن المسؤولين السوريين يتقاضون ما يصل إلى (50) ألف دولار أو ما يعادلها بالعملة المحلية مقابل حرية سجين واحد فقط(38).
إن هو إلا اعتيادي في هذا السياق أن تجد أسباب إطلاق سراح شخص ما تتعلق بصورة شكلية وجزئية بقضية السجين المعني، ففي وقت واحد يلجأ النظام إلى (تجميد) إطلاق سراح العشرات من السجناء استناداً إلى اعتبارات السياسة العامة والأمن العام، إلا أنه من جهة أخرى يطلق سراح عدة مئات من السجناء السياسيين الإسلاميين في سنة 1985 وفي سنة 1986 كجزء من قرار تنفيذ العفو العام على سبيل المثال.
في مطلع الثمانينيات عندما تبدلت سياسة الحكومة إزاء الأقلية الكردية، شرعت بإطلاق سراح السجناء الأكراد، وعندما تغيرت استراتيجية الحكومة السورية نحو منظمة التحرير الفلسطينية والمجموعات الفلسطينية، فإن السجناء الفلسطينيين شهدوا كذلك عملية إطلاق سراح في صالحهم.
صار للحملات الدولية على نظام أسد أثر ما، خاصة منها التي استهدفت إطلاق سراح اليهود والمحامين المحبوسين، وعلى الرغم من أن النظام يتظاهر (بعدم) اكتراثه بالنقد الموجه إليه والضغط الذي يسلط عليه، فإنه لا جدال في تمام نجاح هذه الحملات إزاء تحقيق نتائج ملموسة وواضحة.
على أي حال، فقد أكد معظم السجناء أن المخابرات أخضعت كل الظروف لصالح إطلاق سراحهم، قد يرجع ذلك الاستعداد إلى وجود برنامج للإفراج العام عن شريحة معينة من السجناء بوصفه فرصة ينتهزها النظام، ليس منحاً للحرية أو ضماناً لها، هذا ما تجلى واضحاً تماماً في قضية إطلاق سراح المحامين المسجونين، ومع أن النظام خضع لضغط كبير وواضح بهدف إطلاق سراح جميع المحامين المعتقلين منذ سنة 1980 فإنه عاود حجز بعضهم بسبب رفضهم الموافقة على شروط فرضها عليهم مقابل إطلاق سراحهم وإخلاء سبيلهم.
أما الشرط الأكثر ذيوعاً، مما قيل عنه أنه شرط مسبق ثابت ودائم تقريباً يواجهه جميع السجناء السياسيين دون استثناء، فإنه يتضمن قيام السجين بتوقيع بيان يتعهد فيه بالامتناع عن ممارسة أي نشاط سياسي ويشكر الرئيس على مكرمته في إطلاق سراحه، كما أن بعض السجناء يواجهون سؤالاً محدداً بنبذ انتماءاتهم السياسية السابقة والإعلان عن تأييدهم النظام، وعرض ثالث غالباً ما يراه السجين ويسمعه بصدد العمل مع دوائر الأمن بصفته مخبراً سرياً، وأي رفض لهذه الشروط قد يعني إضافة سنوات جديدة لمحكومية السجين الذي يرفضها، حتى إن القياديين البعثيين السابقين المسجونين منذ سنة 1970 واجهوا عرضاً بإخلاء سبيلهم في عام 1981 مع العودة بهم إلى ادعاء تأييد حكومة أسد كما قيل إلا أن رفضهم هذا العرض جملة وتفصيلاً جلب لهم سبباً للإقامة في السجن تسع سنوات أخرى(39).
قد يتعرض السجناء الرافضون مثل هذه العروض إلى تعذيب مضاف أو جديد فيصيرون هدفاً له يسيراً فضلاً عن سوء المعاملة القاسي كما حصل مثلاً مع المحامية ثريا عبد الكريم التي أسيء إليها أيما إساءة في التعامل خلال السنتين الإضافيتين اللتين جاءتاها بسبب رفضها التوقيع على تعهد بالولاء للنظام، وكما حصل أيضاً مع رياض الترك وأربعة سجناء معه من قيادة الحزب الشيوعي – المكتب السياسي إذ رفضوا -كما قيل- توجيه النقد لحزبهم وإعلان ولائهم لأسد(40) فواجهوا أسوأ الظروف في حبسهم حتى عانوا منها كثيراً.