تلقت حركة المعارضة ضربة قاصمة مرعبة وتراجعت بسببها كثيراً إلى الوراء جراء مجزرة حماة وبعدها، تلك المجزرة التي سجلها شهر نيسان في عام 1981 ثم طرد النظام أكثر من مائة أستاذ جامعي ومدرس ومعلم في المدارس الثانوية والابتدائية من الخدمة وتركوا ثلاث مئة محام وطبيب وصيدلاني ومهندس يقبعون خلف القبضان فضلاً عن اعتقال الكثير من قياديي اتحاد العمال الذين تحدوا المرشحين البعثيين في الانتخابات.
الطرد والفصل يتصاعدان بين صفوف ضباط الجيش والموظفين المدنيين على حد سواء، أما الفنانون والسينمائيون والكتّاب والشخصيات الأخرى فقد لاذوا هرباً إلا المنفى. وكثير من المواطنين اختفوا من الوجود وحشد مالا يقل عن (12) ألف شخص، أكثر من نصفهم (إسلاميون ) في مقرات المحاكم ومراكز الحجز والاعتقال(37).
على الرغم من تعرض حماة إلى أكبر أنواع الأذى من أي مدينة أخرى، ربما باستثناء حلب، فإن نشاطها السياسي لم يتوقف. فهذه المدينة، ذات المائتي ألف نسمة كانت على الدوام معقل المعارضة، ففي أثناء الانتداب أصبحت حماة حصن الحركة المضادة للفرنسيين فضلاً عن صيرورتها أرضاً لأول الإضرابات العمالية السورية. أما في باكورة عهد البعثيين فقد تحولت حماة إلى خصم عنيد للحكومة، مع ذلك كله تعرضت حماة بوصفها هدفاً مباشراً لهجومين عسكريين كبيرين كعقوبة جماعية وردّاً على استقلاليتها.
تعدّ حماة مدينة (سنّية)، متدينة بعمق حيث تجد فيها أكثر من ثمانين مسجداً وجامعاً، إلا أنها تحتضن أيضاً مواطنين مسيحيين والعديد من الكنائس البارزة والشهيرة. والسنيون الأثرياء المنحدرون من عوائل ملاك الأراضي الكبار، وهم الأعداء الألداء للنظام، كانوا القادة الاجتماعيين (الوجهاء) في المدينة ولها. ويمثّل الفلاحون الذين يعملون في مزارع ملاك الأراضي الكبار وحقولهم في الريف المحيط بالمدينة بعضاً من أكثر الفلاحين المستغلين استغلالاً جشعاً في سوريا، وهم الذين جعلوا من المدينة مركزاً لحركة أكرم الحوراني الاجتماعية العلمانية، الريفية المنبع والمتطرفة، مع ذلك، يشكل مخيم الفلسطينيين في المدينة قاعدة أخرى للمعارضة. إذ أن فيها الإسلاميين الأحرار والملاك الكبار وأصحاب المتاجر والعمال والفلاحين المحافظين والثوريين من الفلسطينيين والسوريين، كلهم تقريباً يعارضون النظام وبين كل هؤلاء تجد الإسلاميين أكثرهم قوة وأفضلهم تنظيماً تقودهم قيادة ملتزمة بالثورة المسلحة.
كانت حماة أجمل مدينة في سورية. بل إن بعضهم قال: إن حماة أجمل مدينة في الشرق الأوسط كله. بنيت على ضفاف نهر العاصي الخضراء واشتهرت بجامعها الكبير، غنية بنواعيرها العملاقة، وضواحيها الأثرية القديمة ومنازلها الجميلة الزاهية، وأسواقها المتداخلة مع شوارعها الصاخبة الضيقة.
في وقت ما في أواخر كانون الثاني 1982 قرر النظام وضع حد لمعارضة حماة الصلبة العنيدة. وفي اليوم الثاني من شباط دخلت المدينة قوات بحجم لواء من سرايا الدفاع ووحدات من القوات الخاصة لمصادرة الأسلحة وإلقاء القبض على المعارضين، كان النظام قبل ذلك قد ضرب حماة مرتين، إلا أن المدينة بقيت محافظة على وضعها من غير توبة! في هذا الوقت لم تعد هناك فرصة لإجراءات تقف في منتصف الطريق فلا تكمل مهمتها حتى غايتها.
قرر الإسلاميون المقاومة، إذ فهموا من كل ذلك أن ما سيحصل هو اختبار قوة لا يخلو من حرج. وما إن دخلت قوات الأمن الدهاليز الضيقة في المدينة القديمة حتى وقعت في كمين بالقرب من قاعدة للإخوان المسلمين في حي (الحاضر)، في الوقت نفسه انطلقت وحدات أخرى من الإسلاميين تهاجم القوة الداخلة. بعد قليل انطلق نداء من مآذن المساجد يدعو إلى انتفاضة عامة لاقتلاع النظام من المدينة كلها وإزاحته من سلطته بالقوة.. استولى الثوار على البنادق والأسلحة الخفيفة مع ذخيرتها من مستودعات الشرطة، وتمَّ إعدام ما يقرب من مئة شخص لهم صلة ارتباط بالحكومة والحزب ثم مترسوا مساحات شاسعة من المدينة القديمة، أسهم مع الإسلاميين الذين بلغ عددهم أربع مئة مقاتل ما يقرب من ألفي مواطن في هذه الوقفة.
وبينا وطيس القتال يستعر ليومين متتاليين فإن قوات الأمن لم تستطع التسلل إلى المدينة القديمة، لذا بادرت قوات الحكومة إلى استلام زمام الأمر، وأناطت المهمة بسرايا الدفاع ومن معها بوصفها من أشرس الوحدات العسكرية، وأكثرها ثقة وموالاة، إذ تضم هذه الوحدات: سرايا الدفاع، والقوات الخاصة، ووحدات من قوة الفرقة المدرعة التي يقودها شفيق فياض فضلاً عن اللواء المدرع السابع والأربعين -كلها شرعت مجتمعة تسهم في المعركة. أما المغاوير التي صقلتها المعارك الميدانية في لبنان فقد تولت قصف المدينة بقنابل من طائرات الهيلوكبتر وبالصواريخ والمدفعية ومدافع الدبابات حتى سوّت المناطق المجاورة بالأرض تماماً. ولقد استعر القتال في بعض الأحياء ليصير قتال مدن من بيت لبيت.
وما إن حل اليوم الخامس من شباط حتى احتل الجيش المراكز الاستراتيجية في المدينة، إلا أن المقاومة ما تزال حتى تلك الساعات مستمرة في أحياء معدودات. خاصة في حي الحاضر. من هنا نقول: إن أقل من ألف ثائر وقفوا بوجه أكثر من ثلاثة آلاف جندي.
ها هي المدينة الآن تقاسي من العقوبة الجماعية الماحقة. فخلال ثلاثة أيام، قتلت قوات الأمن المئات من الناس ضمن سلسلة من الإعدامات الجماعية قرب الملعب البلدي وفي مواضع أخرى، نهب الجنود المخازن وسلبوها تماماً كما فعلوا الشيء نفسه في الدور وأطلقوا النار من كل أسلحتهم دون تمييز بين الناس كانوا يعاملون المواطنين وكأنهم هم المسؤولون عن الحالة العامة. فجرت وحدات الهندسة عدداً كبيراً من العمارات الصامدة، بمن فيها من ناس يبلغ عددهم أحياناً العشرات. بل إن بعض التقارير ذكرت استعمال قوات الأمن غاز السيانيد لقتل الناس في داخلها.
عشرات الألوف من المواطنين غادروا المدينة هرباً، إلا أن قوات الأمن ألقت القبض عليهم واعتقلتهم عند نقاط التفتيش وما حولها.
مع أن المقاومة العنيفة توقفت خلال عشرة أيام، فإننا نرى قوات الأمن ما زالت مستمرة في تفجير الأبنية، بضمنها كنيسة مهمة جداً. وفي الشمال من العاصي حيث الأحياء القديمة كثيفة السكان، حوّلها الدمار إلى مجرد ركام من الحجر. أما الأحياء القديمة جنوبي النهر فقد تحوّلت إلى محض أنقاض أيضاً مما دفع الجيش إلى إرسال جرافاته (البلدوزرات) لتسوّي البقايا المحترقة، والمقصوفة من البنايات بالأرض.
اختلفت تقديرات أعداد القتلى كثيراً إلا أن أكثر المحللين مصداقية وضعوا العدد بين (5 آلاف و 10) آلاف شخص، وآلاف كثيرة كثيرة جداً من الجرحى الآخرين مع التدمير الكامل لما لا يقل عن ثلث مساكن المدينة تدميراً شاملاً، وقد بقي ستون ألفاً أو سبعون ألفاً من النساء مشردات من غير مأوى بل هجر المدينة حتى أولئك الذين سلمت دورهم من الدمار بسبب ما انتابهم من الهلع والرعب. ذكر أحد التقارير المعروفة بالموضوعية والصدق أن عدد المساجد المدمرة والكنائس المحطمة وصل إلى (88) مسجداً و(5) كنائس، فضلاً عن (21) سوقاً وسبع مقابر وسبعة حمامات عامة وثلاثة عشر مرفقاً سكنياً عاماً أو حياً مجاوراً(38).
زار مراقب الشرق الأوسط مدينة حماة في العام 1989 وعلى الرغم من إعادة تعمير المدينة لدرجة مناسبة فإن آثار (1982) ما زالت ماثلة للعيان بوضوح. فلم يبق من المسجد الكبير الذي قيل عنه: إنه كان من أجمل مساجد الشرق الأوسط إلا ركام حجري يملاً الأسس. وفي الجانب الشماليّ من النهر ما زالت المدينة ممسوحة بالأرض بصورة كاملة تقريباً. أما في وسط غرب المدينة فتجد عمالاً يشتغلون في بناء هيكل لفندق (ميريديان) سياحي جديد في يوم ما ستغطي مسابح هذا الفندق وساحات التنس فيه وحدائقه الغنّاء على آثار المدينة العريقة، أما الآن فما زال العذاب الأليم مذاق الجميع. في الجنوب، أعيد بناء عدد غير كبير من أبنية قديمة على امتداد ساحل النهر بما في ذلك (قصر العظم) الذي أعدّ ليصير متحف البلدية. وبعد كل ذلك وفوقه أخيراً، تبدو واجهات المباني مميزة بثقوب القصف ويبقى الناس هنا يعيشون في بقايا منازلهم المحطمة، إلا أن أهل حماة لن ينسوا بسرعة ما حصل لمدينتهم الجميلة.