استحدثت محكمة أمن الدولة العليا بالمرسوم رقم 47 تاريخ 28/3/1968 في ذروة الصراع على السلطة بين الشركاء عليها، وفي ذروة التهور والتشنج العقائدي الذي كان يهدف إلى استيراد التجارب الشيوعية الماوية إلى سورية وتحويل دمشق إلى هانوي الشرق الأوسط. ولم تجد السلطة الحاكمة في سورية بعد هزيمة حزيران عام 1967 بداً من استحداث هذه المحكمة بصورة رسمية مقننة لقمع من أسمتهم بأعداء الثورة. وبذلك حلت هذه المحكمة محل المحاكم العسكرية الاستثنائية.
وكان واضحا منذ البداية أن تشكيل محكمة أمن الدولة العليا يقصد منه تجريم المعارضين والخصوم وإنزال أقصى أنواع الانتقام والتنكيل بهم. لذلك تجاوزت المحكمة كل حصانة وشمل اختصاصها كل شخصية على التراب السوري واعتبرت أحكامها قطعية نافذة فور تصديق رئيس الجمهورية عليها.
صدر في عام 1973 دستور دائم جديد من شأنه أن يلغي كل الإجراءات الاستثنائية الماضية مثل حالة الطوارئ وقوانين مناهضة الثورة ومحكمة أمن الدولة العليا لكن المادة 153 من الدستور الدائم شرعت لبقاء هذه القوانين الاستثنائية.
احتفظ فايز النوري بمنصب رئيس المحكمة منذ أواخر السبعينات، وهو معلم ابتدائي ينحدر من مدينة دير الزور الواقعة في شمال شرق سورية. درس الحقوق في فترة لاحقة من حياته منتسباً، ولم يمارس المحاماة أو القضاء قبل تعيينه في هذا المنصب الخطير.
مثل أمام المحكمة مجموعات متنوعة من المعتقلين السياسيين، منهم من حكم عليه غيابياً مثل بعض المجموعات الكردية، بينما حكم على آخرين بالإعدام مثل مجموعات من الإخوان المسلمين حيث استندت المحكمة على القانون 49 لعام 1980 الذي يقضي بالإعدام على مجرد الانتساب الفكري للإخوان المسلمين. وحكم على آخرين بفترات سجن متفاوتة لكنهم لم يفرج عنهم بعد انقضاء فترات محكومياتهم. وفي النصف الأول من التسعينيات مثل أفواج من اليساريين والاشتراكيين والمدافعين عن حقوق الإنسان أمام هذه المحكمة الجائرة (الحزب الشيوعي – المكتب السياسي، حزب العمل الشيوعي، حزب البعث الديمقراطي، حزب البعث الموالي للعراق، الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي، لجان الدفاع عن الحريات وبعض النقابيين). صدرت أحكام متفاوتة بحقهم تراوحت من المؤبد إلى البراءة بعد قضاء أكثر من عقد من الزمن في السجن.
حوكم كل الذين مثلوا أمام محكمة أمن الدولة العليا بموجب القوانين الاستثنائية المفترض بطلان مفعولها بعد صدور الدستور الدائم لعام 1973، مثل قوانين مناهضة الثورة، أو القوانين القمعية التي استحدثت بعد ذلك مثل القانون 49 لعام 1980. ولذلك كانت حيثيات الأحكام القاسية هلامية تفتقر إلى السند القانوني أو المنطقي مثل “توهين عزيمة الأمة” أو “مناهضة تطبيق النظام الاشتراكي” أو معاداة “الثورة”. وظلت محكمة أمن الدولة العليا واجهة القمع السياسي الرسمي ومحاربة الدولة للرأي الآخر بصورة مقننة.
حاكمت محكمة أمن الدولة العليا أعضاء من جماعة الإخوان المسلمين في سرية كاملة، ولم يسمح لهم بتوكيل من يدافع عنهم. أما في التسعينيات في حالات أخرى فقد سمح لشخص أو شخصين من أهالي الموقوفين بحضور جلسات المحكمة، وحضر ممثل من منظمة العفو وممثل من منظمة مراقبة حقوق الإنسان إحدى جلسات المحكمة، لكن لم يسمح فيها لموكلين بالدفاع عن المتهمين. ولقد استمرت المحكمة في سريتها ولم تشذ عن هذه السيرة إلا في جلسة إجرائية يتيمة في بداية محاكمة رياض الترك، الأمين العام للحزب الشيوعي – المكتب السياسي.
لقد فقدت محكمة أمن الدولة العليا حيادها واستقلالها ونزاهتها وفق ما نصت عليه المادة العاشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يؤكد على حق كل إنسان في أن تنظر قضيته على قدم المساواة مع الآخرين أمام محكمة مستقلة نزيهة عادلة وعلنية للفصل في حقوقه والتزاماته وأية تهمة جنائية موجهة إليه.
_______________
* رئيس اللجنة السورية لحقوق الإنسان