بقلم: المحامي هيثم المالح *
مقدمة
يمثل القضاء الحصن الأخير لحماية الأمة وأفرادها بمواجهة بعضهم بعضا وبمواجهة السلطة. وبقدر ما يكون القضاء قويا مستقلا راسخا تكون حريات الناس وأموالهم وأرواحهم وأعراضهم مصونة محصنة كريمة.
ولو مررنا من امام مبنى قصر العدل في دمشق لوجدنا عبارة “العدل أساس الملك” تزين واجهته، وهذه العبارة لم تكن موجودة سابقا حين كان القضاء مستقلا قويا محصنا.
فالعدل أساس الملك وعماده وهو سبيل الناس إلى السعادة وسبيلهم إلى الأمن، وقد أمر الله عز وجل به في محكم التنزيل فقال “إن الله يأمر بالعدل والإحسان” (سورة النحل آية 9).. “اعدلوا هو أقرب للتقوى” (سورة المائدة آية 8).. “وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى” (الأنعام 152).. “وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم” (الشورى 15).. “وأقسطوا إن الله يحب المقسطين” (الحجرات 9).. “وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل” (النساء 508).. “و لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط” (الحديد 15).
والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حض على العدل وأنذر من الجور بعذاب شديد ومما قاله “اتقوا الله واعدلوا”.. “إن المقسطين عند الله على منابر من نور، إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل أشركه الله في حكمه فأدخل عليه الجور في عدله”.. “عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة”.
كما نادى الخلفاء الراشدون بالعدل فأبو بكر رضي الله عنه قال في أول خطبة له “الضعيف فيكم قوي عندي حتى أخذ الحق له والقوي فيكم ضعيف عندي حتى أخذ الحق منه إن شاء الله”. وعمر بن الخطاب رضي الله عنه قال فيما كتبه لأحد عماله “وأما العدل فلا رخصة فيه في قريب ولا بعيد ولا في شدة ولا رخاء والعدل وإن رؤي لينا فهو أقوى وأطفأ للجور وأقمع للباطل..”. وقال فيما كتبه لأبي موسى الأشعري “.. آس بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك”.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية “إن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة وعاقبة العدل كريمة ولهذا يروى إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة”.
ونادت بالعدل أيضاً الشريعة المسيحية فقد جاء في إحدى رسائل القديس بولص الموجهة إلى روما “إن الله عادل وكل منا يدان بحسب أعماله إن الله متناهي العدالة”.
وفي الشرائع القديمة نودي بالعدل. فهذا حمورابي يقول “ناداني الإلهان أل وبال أنا حمورابي لكي أقوم بما يعود على خير البشر وأجعل الحق سائدا في هذه البلاد وأقضي على الشرير والفاسق وأمنع الظالم من الإضرار بالضعيف”.
وتوزيع العدل خاص بالله العلي القدير فقد قال في كتابه الكريم “إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين” (الأنعام 57).. “والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب” (الرعد 41).
كما أنه خاص بالرسل فقد قال تعالى “يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله” (سورة ص 36).
وقد استعار القضاة هذه الصفة الإلهية صفة توزيع العدل بين الناس فغدوا ألسنته التي تنطق بالحق وتقول بسيادة القانون ويحكمون فتنفذ أحكامهم دون أن يتركوا لأحد بعدهم أي مقال، لأنها عنوان الحقيقة والصواب وهم يعصمون المظلوم ويحمون الضعيف ويحملون الناس على العيش في حياة لا محل فيها للطغيان أو الاستعلاء أو التعسف.
فهل يمكنهم أن يحققوا كل ذلك؟ أن يشيعوا الطمأنينة بين الناس في أرواحهم وأموالهم وحرياتهم وشرفهم إذا لم يكن الجهاز الذي يؤلفون جزءا من كيانه سلطة قائمة بذاتها مستقلة عن باقي السلطات؟ لا مؤسسة أو إدارة كباقي مؤسسات الدولة أو اداراتها؟ أو كان القضاة كسائر موظفي الدولة لا حصانة فعلية لهم تعصمهم من الخضوع إلى أي مؤثر خارجي يحول بينهم وبين العمل في إطار الحق والعدالة حصانة تساعدهم على أن يكون ما يقومون به بمنجاة من الخوف ومن تعسف أو طغيان أو هوى فيأتي عملهم محققا للعدل مطبقا لسيادة القانون!!
كلا، لن يتمكن القضاة من تحقيق هذا الأمر ولن تتمكن السلطة القضائية من بلوغ هذا الهدف إذا لم يعترف بالقضاء سلطة مستقلة تقف على قدم المساواة مع باقي السلطات في الدولة، وإذا لم يعترف للقاضي بحصانة تتيح له أن يقف صامدا أمام التيارات الجارفة كافة، فلا ينجرف معها ولا ينساق، فيبقى عزيزا بعيد المنال أيا كان القرار الذي يصدره ما دام منبعثا من ضميره ووجدانه حتى ذلك الذي يغيظ السلطة الحاكمة.
و إذا كان القاضي يملك أغلى ما لدى الانسان حريته وحياته وماله وشرفه فإن عمل القاضي يختلف عن عمل أي موظف كان وبالتالي كان بد من الاعتراف بأمرين اثنين:
أولهما: استقلال السلطة القضائية.
وثانيهما: استقلال القضاة في عملهم، إذ ما جدوى استقلال القضاة اذا لم يعترف بالقضاء سلطة ذات كيان مستقل. وما جدوى استقلال القضاء دون القضاة إذا أقحمنا عليه أشخاصا غير متخصصين تحت ستار أي باعث كان وما فائدة هذا الاستقلال أيضاً إذا اعتدينا على حيدة القضاء وزججنا به في خضم السياسة ومتاهاتها فغدا جزءا من إرادة الحاكم!
فيما مضى من عجالة بينا مكانة القضاء وضرورته لحياة سليمة قويمة فماذا عن القضاء في سورية؟
في بحثنا هذا سوف نتعرض لحصانة القاضي ثم للسلطة القضائية في التشريع السوري مرورا بالتشريعات السابقة ونخلص إلى النتيجة التي يؤول إليها البحث.
حصانة القاضي في التشريع السوري
لن نعود إلى العقود البعيدة ولكن سنتعرض لحصانة القاضي بدءاً من عام 1961، فقد صدر في هذا العام المرسوم التشريعي رقم 98 تاريخ 15/11/1961 والذي طرأت عليه عدة تعديلات بعد صدوره، وبمقتضى هذا القانون وتعديلاته يراد بالحصانة صيانة القضاة من العزل والنقل.
والعزل: الصرف من الخدمة، والنقل: النقل من بلد لآخر أو من وظيفته المحددة في مرسوم تعيينه إلى وظيفة أخرى (م92).
ويتمتع جميع القضاة من حكم ونيابة بالحصانة من العزل (م92/1) باستثناء القضاة الذين لم يمض على تعيينهم في القضاء ثلاث سنوات (م93/1).
وبالنسبة لحصانة النقل فإن جميع القضاة يتمتعون بها (م92) باستثناء قضاة النيابة العامة حيث يتم نقلهم بمرسوم يصدر بناء على اقتراح وزير العدل، وقضاة الحكم الذين لم يمض على تعيينهم في القضاء ثلاث سنوات، والقضاة الذين طلبوا النقل خطيا، والقضاة الذين أمضوا ثلاث سنوات فأكثر في الوظيفة المحددة في مرسوم تعيينهم، عندما تقضي الضرورة بنقلهم، والقضاة الذين ينقلون ترفيعا من فئة إلى فئة أخرى، والقضاة المحكوم عليهم من قبل مجلس القضاء الأعلى بعقوبة أشد من عقوبة قطع الراتب، ومعاونو القضاة الابتدائيين والشرع والتحقيق (م93/2).
ولا يجوز نقل القاضي أو ندبه إلى وظيفة أدنى من فئته (م84) أو نقله إلى ملاك آخر في الدولة إلا بناء على طلبه وموافقة مجلس القضاء الأعلى (م85 /1).
كما لا يجوز أن يجتمع في محكمة واحدة قضاة حكم أو قضاة نيابة عامة تربطهم ببعضهم مصاهرة او قرابة من الدرجة الرابعة فما دون، وإذا وقعت مصاهرة أثناء وجود القاضيين في محكمة واحدة فعلى أحد الفريقين أن يقدم طلبا بنقله وإلا ينقل الصهر (م88)، أي ان الصهر هنا يفقد حصانة النقل بالنسبة لهذه الحالة فقط حتى ولو كان يتمتع بها في الأصل، ولم يسمح هذا التشريع بإقامة الدعوى الجزائية على القضاة بصدد الجرائم التي يرتكبونها أثناء قيامهم بالوظيفة أو خارجها إلا من قبل النائب العام للجمهورية بناء على اذن من لجنة قضائية مؤلفة من رئيس محكمة النقض واثنين من أقدم مستشاريها، أو بناء على طلب من مجلس القضاء الاعلى عندما يتبين له أثناء محاكمة القاضي المسلكية وجود جرم جزائي، وليس للمدعي الشخصي أن يحرك دعوى الحق العام في هذه الجرائم (م114).
ونشير بهذا الصدد إلى قضاة مجلس الدولة وهو المجلس الذي ينظر في الدعاوى الادارية فقد نص القانون رقم 55 لعام 1959 على أن أعضاء مجلس الدولة من درجة مستشار مساعد فما فوق غير قابلين للعزل أما النواب فيمكن عزلهم إذا لم يمضوا ثلاث سنوات متصلة في وظيفتهم أو في وظيفة مماثلة لها يتمتع شاغلها بالحصانة فيها. ومع ذلك إذا اتضح أن أحدا من هؤلاء قد فقد الثقة والاعتبار اللذين تتطلبهما الوظيفة القضائية أحيل على التقاعد بمرسوم من رئيس الدولة بعد موافقة اللجنة المشار إليها في المادة (64) السابقة وتتألف لجنة التأديب والتظلمات من قضاة من المجلس المذكور برئاسة رئيس المجلس وقد نصت المادة (66) من القانون (55) على طريقة تأليف اللجنة.
وبحسب هذا التشريع ترفع حصانة النقل عن قضاة الحكم متى أريد ترقيتهم من فئة إلى أخرى (وليس من درجة إلى درجة ضمن المدينة) كما وترفع عن القضاة الذين أمضوا ثلاث سنوات فأكثر في مراكزهم عندما تقضي الضرورة بنقلهم، كما أنه يمكن نقل قضاة الحكم إلى ملاك النيابة العامة أو العكس بقرار يصدر عن وزير العدل بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى (م83) دونما حاجة لموافقة القاضي.
إن حصانة القاضي من العزل لا تعني عدم قابلية صرفه من الخدمة على الاطلاق، إذ يمكن أن يتم ذلك إذا صدر قرار عن مجلس القضاء الاعلى بعزله بوصفه مجلسا لتأديب القضاة إذا ارتكب أعمالا من شانها أن تشين مسلك القاضي وتعيبه وفي هذه الحالة يمكن ايقاع عقوبة العزل بحق القاضي الذي أثبت عجزا أخلاقيا ويصدر مجلس القضاء الاعلى قراره بالأكثرية.
وعلى هذا فإن هذا التشريع قد وكل امر البت في موضوعات القضاة من تعيين وترفيع ونقل وعزل وتأديب إلى هيئة قضائية صرفة وهي مجلس القضاء الأعلى وقد كان تأليفه من سبعة قضاة برئاسة رئيس محكمة النقض، الامر الذي يؤكد حصانة القاضي واستقلاله، ويتناول اختصاصه قضاة الحكم والنيابة العامة على حد سواء، باستثناء نقل القضاة الأخيرين الذي يتم بمرسوم بناء على اقتراح وزير العدل فقط دونما حاجة للرجوع إلى مجلس القضاء الأعلى.
ولقد أتت تشريعات كثيرة بدءا من القرار رقم 124 تاريخ 15/6/1923 ومن بعده القرار رقم 238 تاريخ 2/6/1928 وكذا المرسوم التشريعي رقم 15 تاريخ 19/10/1946 والمرسوم 80 تاريخ 30/6/1947 والمرسوم التشريعي رقم 19 تاريخ 10/7/1952 والمرسوم التشريعي رقم 133 تاريخ 8/10/1953، وفي عهد الوحدة صدر قانون السلطة القضائية رقم 56 لعام 1959 ثم أعقبه المرسومان التشريعيان رقم 23 و40 لعام 1966 وجميع هذه المراسيم تناولت حصانة القضاة وكان آخرها المرسوم التشريعي رقم 32 تاريخ 6/2/1968 الذي سمح فيه للسلطة التنفيذية بأن تصرف كل موظف أكمل الخامسة والخمسين من عمره أو تجاوزت خدماته الثلاثين عاما بناء على اقتراح الوزير المختص وبذا تكون حصانة العزل قد رفعت عن كل قاضي تتوافر فيه احدى الحالتين السابقتين.
والامر الذي نلاحظه من التشريعات المتقدمة كثرتها والكثرة تخلق في السلطة القضائية جوا من عدم الاستقرار النفسي والطمأنينة اللذين لا بد منهما للقاضي في عمله، وان رفع الحصانة ينعكس أثره على المتقاضين أكثر مما ينعكس على القضاة.
السلطة القضائية في الدساتير السورية والنصوص التشريعية الأخرى
السلطة القضائية في الدستور:
مرت السلطة القضائية بالعديد من الحالات خلال فترة الاستقلال:
أ- الدستور السوري لعام 1953:
لقد أضفى الدستور أهمية كبيرة للقضاء وحرص على استقلالية القضاء فنص في المادة 113 على ما يلي: “1- تؤلف المحكمة العليا من سبعة أعضاء يسمى أحدهم رئيسا لها. 2- يشترط في العضو أن يكون: أ- متمتعا بشروط المرشح للنيابة. ب- حاملا اجازة الحقوق من الجامعة السورية أو ما يعادلها. ج- متما الأربعين من عمره. د- قد مارس القضاء والمحاماة والتدريس الجامعي أو أحد هذه الأعمال مدة لا تقل عن عشر سنوات”.
وفي نص في المادة 118 على ما يلي: “1- يؤلف مجلس القضاء الأعلى من سبعة أعضاء: أ – رئيس المحكمة العليا رئيسا. ب- اثنين من أعضاء المحكمة العليا تختارهما المحكمة. ج- الأربعة الأعلى مرتبة من قضاة محكمة التمييز. 2- يشرف هذا المجلس على شؤون قضاة الحكم المتعلقة بمهمتهم”.
والمادة 119 “لرئيس مجلس القضاء الأعلى ولوزير العدل حق تقديم الاقتراحات بتعيين قضاة الحكم وترفيعهم ونقلهم وتأديبهم وعزلهم وفقا لاحكام القانون ويبت مجلس القضاء الاعلى في هذه الاقتراحات بقرار يتخذه بالأكثرية المطلقة ويبلغه إلى وزارة العدل لتنفيذه بمرسوم أو بقرار وفقا لأحكام القانون”.
ب- في عام 1962 جاء المرسوم التشريعي رقم 120 تاريخ 11/9/1962 فنصت المادة 3 منه على ما يلي: “يلغى نص المادة 65 من قانون السلطة القضائية المشار إليه ويستعاض عنه بالآتي: يؤلف مجلس القضاء الأعلى على الوجه الآتي: رئيس محكمة النقض رئيساً، النواب الثلاثة لرئيس محكمة النقض، الأمين العام لوزارة العدل، أقدم مستشاري محكمة النقض.
عند غياب رئيس محكمة النقض أو أحد نوابه أو رئيس محكمة الاستئناف يحل محله من يليه في الأقدمية من ملاك محكمته وعند غياب الامين العام يحل محله أقدم قضاة الادارة المركزية”.
وإن قراءة سريعة للنصوص السابقة تعطينا فكرة واضحة عن مكانة القضاء واستقلاله في الدساتير السابقة لدستور عام 1973، واتجاه المشرع لأن يجعل من الجهاز القضائي جهازا متميزا يضم خيرة الناس علما وسمعة وخبرة.
ج- في الدستور السوري لعام 1973
فصل الدستور السوري تحت الباب الثاني سلطات الدولة فأتى على شرح السلطة التشريعية تحت عنوان الفصل الأول ثم أتى على السلطة التنفيذية تحت الفصل الثاني ونص على أجهزة السلطة التنفيذية بان جعل رئيس الجمهورية رأسا لهذه السلطة وشرح كيفية ترشيحه وانتخابه من المادة 83 حتى المادة 114 ومن دراسة هذه المواد يتجلى لنا أن رئيس الجمهورية يهيمن هيمنة كاملة وتامة على جميع السلطات ويحكم قبضته عليها بشكل لا يدع لها مجالا للحركة إلا وفق مشيئته فهو يمثل مركزاً أقوى من مراكز بعض الملوك أو الأمراء إنه مركز مطلق لا معقب لحكمه أو لرأيه فلذا جاء الدستور مهيئا لسلطة مطلقة للسلطة التنفيذية التي يرأسها رئيس الجمهورية ولئن كنا لسنا بصدد شرح صلاحيات رئيس الجمهورية فإنما نتعرض لها حتى يكون انتقالنا لشرح أوضاع السلطة القضائية انتقالا واضحا يسلط الضوء على النواحي كافة التي تحكم هذه السلطة!
لقد خص الدستور السوري لعام 1973 في الفصل الثالث بحث السلطة القضائية في المواد من 132 وحتى 138 كما يلي:
المادة 132(يرأس رئيس الجمهورية مجلس القضاء الأعلى ويبين القانون طريقة تشكيله واختصاصه وقواعد سير العمل فيه)
المادة 133(1- القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون. 2- شرف القضاة وضميرهم وتجردهم ضمان لحقوق الناس وحرياتهم)
المادة 134 (تصدر الاحكام باسم الشعب العربي في سورية)
المادة 135 (ينظم القانون الجهاز القضائي بجميع فئاته وأنواعه ودرجاته ويبين قواعد الاختصاص لدى مختلف المحاكم)
المادة 136 (يبين القانون شروط تعيين القضاة وترفيعهم ونقلهم وتأديبهم وعزلهم)
المادة 137 (النيابة العامة مؤسسة قضائية واحدة يرأسها وزير العدل وينظم القانون وظيفتها واختصاصاتها)
المادة 138 (يمارس مجلس الدولة القضاء الاداري ويعين القانون شروط تعيين قضاته وترفيعهم وتاديبهم وعزلهم)
و لئن كان الفصل قد جاء تحت عنوان السلطة القضائية إلا أنه لم يذكر بأن هذه السلطة هي سلطة مستقلة بل إن المادة 132 قد بينت أن رئيس الجمهورية والذي هو في الوقت ذاته رئيس السلطة التنفيذية يرأس مجلس القضاء الاعلى ولئن كانت المادة 133 قد بينت بأن القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون إلا أن هذا النص لا يعود له معنى حين يقحم القضاة في خضم السياسة فيغدو القاضي حزبيا تابعا لسلطة حاكمة مستبدة وبالأحرى هو جزء في عجلة النظام!!
مقدمات أدت إلى نتائج
إن ما حدث في سورية إنما هو تهيئة كاملة للطلاب بأن يكونوا حزبيين وتأطيرهم بالنظام سواء عن طريق إلزامهم وهم في مراحل الدراسة الابتدائية لأن ينخرطوا في منظمة طلائع البعث أم حين يصبحون في مراحل الدراسة الثانوية بالانخراط فيما يسمى شبيبة الثورة حتى إذا واصلوا دراستهم الجامعية ثم تخرجوا من كليات الحقوق أضحى لزاما عليهم حتى يقبلوا في سلك القضاء أو حتى يجدوا لهم عملا أن يكونوا حزبيين وبذا تكون مراحل التهيئة السابقة قد أتت على شخصيتهم المستقلة وأضحوا كالعجينة بيد الخباز وبالتالي فإن معنى استقلال القاضي في حكمه وشخصيته وآرائه تكون قد أصبحت في مهب الريح ناهيك عن تدخل الاجهزة الأمنية فؤق كل ذلك في تعيين القضاة وإرسال التقارير عنهم مما يجعلهم خاضعين مسقبلا لهذه الاجهزة.
وأما عن استقلال السلطة القضائية عن السلطة التشريعية: فاذا لم تكن السلطة القضائية سلطة مستقلة تماما عن السلطة التشريعية بأن لا يحجب حق التقاضي عن الناس بأي تشريع وتحت أي مسمى وان لا تلغى الأحكام القضائية أو يعطل نفاذها وبان لا تمس حصانة العزل أو النقل تحت أية حجة كانت، لما كان لاستقلال القضاء عن السلطة التشريعية أي معنى، لانها تستطيع بسط هيمنتها على هذه السلطة متى شاءت وتحت ستار النصوص القانونية، وهو الأمر الجلي الواقع في سورية إذ لا معنى للأحكام القضائية التي تصدر عن القضاء لأن نفاذها رهن بإجازة سلطات أخرى سواء تنفيذية أم تشريعية ولأن عددا من المراسيم والقوانين صدرت بحجب حق التقاضي أمام العدالة وهي أكثر من ان تحصى.
ولو عدنا إلى نصوص قانون السلطة القضائية الحالي لوجدنا أن حصانة القاضي هي حصانة اسمية ووهمية فقد ترفع حصانة النقل عن قضاة الحكم متى أريد ترقيتهم وعن القضاة الذين أمضوا مدة ثلاث سنوات فأكثر في مراكزهم عندما تقضي الضرورة بنقلهم في حين أن التشريعات السابقة لم تكن تسمح بالنقل إلا بموافقة القاضي الخطية حتى لو كان من أجل ترقية (المادة 79 من المرسوم التشريع رقم 80 لعام 1947 والمادة 96 من المرسوم الاشتراعي لعام 1946) كما أن التشريع الحالي سمح بنقل قضاة الحكم إلى النيابة العامة (مادة 83) دون موافقة القاضي وبهذا تكون حصانة القاضي هشة وعرضة للسلب.
وأما عن استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية:
فاذا لم تكن السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التنفيذية بعدم تدخل هذه السلطة في تعيين القضاة وحماية مرتباتهم وترقيتهم وخضوع القضاة لنظام خاص بالمسؤوليتين التأديبية والمدنية وبعدم تعطيل تنفيذ الأحكام القضائية أو قرارات مجلس القضاء الاعلى فان هذه السلطة لا تكون مستقلة استقلالا تاما.
إلا أننا لو عدنا إلى نصوص القانون لوجدنا أن المادة 65 من قانون السلطة القضائية الصادر بالمرسوم 98 لعام 1961 المعدلة نصت على ما يلي: يؤلف مجلس القضاء الأعلى على الوجه الآتي: رئيس الجمهورية ينوب عنه وزير العدل رئيساً، رئيس محكمة النقض عضواً، النائبان الاقدمان لرئيس محكمة النقض عضوا، معاون الوزير لوزارة العدل عضوا، النائب العام عضوا، رئيس ادارة التفتيش القضائي عضوا، اذا تغيب معاون الوزير أو رئيس التفتيش يكمل النصاب مدير ادارة التشريع وفي حالة غياب احد الأعضاء الاخرين يكمل النصاب أقدم المستشارين في محكمة النقض.
وهكذا أضحى وزير العدل يرأس السلطة القضائية، فضلا عن أن اكثرية المجلس تابعة لوزير العدل ومعاون الوزير والنائب العام ورئيس ادارة التفتيش.
وبذا فلم تعد هذه السلطة سلطة مستقلة وانما دائرة من دوائر الدولة يديرها وزير العدل.
ومن نافلة القول أننا نجد أن وزراء ليس لهم الخبرة القضائية الكافية يرأسون مجلس القضاء الاعلى الذي يضم فيه قضاة أمضوا عمرهم كله في خدمة القضاء فكيف يمكن لنا أن نفسر ذلك؟؟ هل نستطيع أن نقول أن السلطة القضائية بعد ما تقدم من بحث هي سلطة مستقلة؟
كلا وألف كلا!!
الأقضية الاستثنائية
ولكن كيف تم تجريد القضاء من سلطته المستقلة وتم الاعتداء على حياده من نواح أخرى؟
إن انشاء الأقضية الاستثنائية أسلوب شاذ من أساليب النظم الشمولية التي لا تقبل اختصاص القضاء العادي في جرائم او منازعات بعينها. ولا شبهة في أن انتزاع ولاية القضاء العادي في صدد منازعة أو جريمة بعينها يكشف عن انحياز في المعاملة وإلا فلو كان الأمر أمر احتكام إلى القانون لما كان هناك محل لأن تشكل محاكم أو لجان خاصة وحتى لو لم تعط هذه الجهات سلطات استثنائية يتجاوز بها حدود القانون العام وتنتهك بها ضماناته، فإن تأليف هذه المحاكم واللجان بحد ذاته انتهاكا لمبدأ حيدة القضاء (عن بحث للأستاذ نصرت ملا حيدر في مجلة المحامون).
لقد دأب المشرع في سورية على إنشاء العديد من المحاكم واللجان الاستثنائية بغرض سلب القضاء اختصاصاته ومنها:
1- المحاكم العسكرية التي وصفها رجال الفقه الدستوري بأنها أسلوب شاذ لا يأتلف مع قيام القضاء العادي كسلطة مستقلة كما لا يأتلف مع الأسلوب الديمقراطي في الحكم وقد أتت دساتير عديدة منها عربية على منع انشاء مثل هذه المحاكم.
2- ومن هذه المحاكم محاكم الميدان العسكرية التي لا تتقيد بأصول ولا تتقيد بالعقوبات والقضاة فيها لا يشترط تخرجهم من كلية الحقوق ولا يربطهم باقانون أي رابطة، والتي يكون من اختصاصها أصلا محاكمة العسكريين في حالات محددة، إلا أن مرسوما تشريعيا قضى بتوسيع صلاحيات هذه المحاكم لمحاكمة المدنيين.
3- كذلك من هذه المحاكم محكمة أمن الدولة العليا المنشأة بموجب المرسوم التشريعي رقم 47 لعام 1968 المعدل وأحكام هذه المحكمة يصادق عليها رئيس الجمهورية الذي له حق تعديلها أو إلغائها أي أن أحكام هذه المحكمة خاضعة لرقابة السلطة التنفيذية وتصديقها ولا رقابة عليها لاية جهة قضائية.
4- كما أن القوانين أحدثت لجاناً خاصة مثل لجان تحديد الأجور للعمل الراعي ولجان تسريح العمال وسواها.
5- محكمة الأمن الاقتصادي والتي لا يوجد لديها ضوابط القواعد القانونية العادية والمحاكمات فيها غير علنية كما يمنع على المحامين الاطلاع على الملفات، وبذا تغدو أشبه بالأجهزة السرية.
كل هذه المحاكم الاستثنائية واللجان سلبت القضاء اختصاصه وحصرت عمله في نطاق محدد ونالت من حيدته وهيبته.
ما هو الواقع
عقب الثامن من آذار 1963 كان من بواكير المراسيم التي أصدرها مجلس قيادة الثورة مرسوم العزل المدني، إذ أتى هذا المرسوم على تشميل بعض الاشخاص بالعزل المدني ثم جاء مرسوم آخر فاعتبر المعزول مدنيا مصروفا من الخدمة (لا سابقة لهذا المرسوم فيما أعلم).
وقد شمل هذا المرسوم أحد القضاة هو الاستاذ أحمد الراشد الذي انتدب لرئاسة المحكمة العسكرية التي حاكمت من سمي المشتركون في فتنة حلب والتي ذهب ضحيتها عدد من خيرة ضباط الجيش وقد حكمت المحكمة على المدعو ابراهيم العلي بالاعدام الا أن المذكور كان له دور بارز فيما أعقب الثامن من اذار ومن هنا يمكن لنا أن نفهم كيف صدر مرسوم العزل المدني ومعلوم أن القاضي يتمتع بحصانة العزل. فإذا بهذا المرسوم يفتئت على القانون والدستور ويعتدي على قاض قائم بعمله عقابا له على حكم اصدره.
وفي عام 1966 كنت معارا للعمل في القضاء الليبي فأصدرت السلطة مرسوما تشريعيا قضى برفع الحصانة عن القضاء وتم صرف اربعة وعشرين قاضيا كنت انا منهم وكان منهم رئيس محكمة النقض الأساذ عبد القادر الاسود احد اكبر الرجالات القضائية في سورية وكان ايام الوحدة رئيسا لمحكمتي النقض السورية والمصرية، وشمل ايضا الأستاذ الكبير علي الطنطاوي وآخرين، وقد زعم من أصدر المرسوم ان المصروفين من الخدمة غير متوافقين مع الثورة!.
وأخيراً إن القضاة هم سلطان الحق الذي لا بد منه لسلطان القوة، لأن القوة بدون الحق تعني البطش وسلب الحقوق في حين ان سلطان القوة من اجل الحق هو التقويم للباطل وفعله والإنقاذ للإنسان من التخبط في شريعة الغاب.
ولا يوجد في الحكومات البشرية سوى قوتين ضابطتين: قوة القانون وقوة السلاح. وإذا لم يتول قوة القانون قضاة فوق الخوف وفوق كل ملامة وتأثير فإن قوة السلاح ستسود حتما وبذلك تؤدي إلى سيطرة النظم العسكرية على النظم المدنية. (نصرت ملا حيدر، المرجع السابق).
وفوق كل ذلك فإن معظم أجهزة الدولة ترفض تنفيذ الأحكام القضائية ومع أن من يمتنع عن تنفيذ أي حكم قطعي يقع تحت طائلة المعاقبة القانونية فإن اجتهادا قضائيا خاطئا منحرفا قضى بعدم جواز مساءلة الوزير الممتنع عن تنفيذ الأحكام القضائية إلا من قبل رئيس الجمهورية. (صدر هذا الاجتهاد عن إدارة التسريع التابعة لوزارة العدل).
مما تقدم لنا يتضح لنا كيف انهار القضاء انهياراً كاملاً في سورية، وبالحقيقة فإن ثمة اغتيالا تشريعيا منظما لهذا الجهاز القضائي الهام والذي لاغنى عنه في أي مجتمع من المجتمعات، وهو حصن الأمة الأخير لحماية المواطنين في أرواحهم وأموالهم وأعراضهم وحريتهم.
وإنني من منبر الفكر أدعو جميع المسؤولين لتلافي هذا الانهيار وإلا…
وبعد أليس من المفيد أن نستعرض بعض الإحداثات في قصر العدل والتي تبين أن السلطة التنفيذية ومن يقف وراءها من تنظيمات حزبية قد تغلغلت إلى صميم القضاء وكيانه وسلبته حريته واستقلاله.
فلو دخل الواحد منا قصر العدل فماذا يجد:
1- قاعة للفرقة الحزبية.
2- قاعة البيعة.
3- محكمة الأمن الاقتصادي في الطابق الأخير وهي مغلقة وجلساتها تتسم بالسرية وملفاتها يمتنع على المحامي الإطلاع عليها، وهي أشبه بجهاز من أجهزة المخابرات لاعلاقة لها بالقانون.
4- صور منتشرة على جدران المحاكم بشكل يخرج القضاء عن هيبته ويحوله إلى معرض للصور لا يأتلف مع الذوق العام لقصر يسعى لتحقيق العدالة.
وأخيراً وليس آخراً إنني أضع هذه النقاط التي أثرتها سابقاً أمام المجتمع بأسره علها تجد أذنا صاغية تعيد للقضاء هيبته وحيدته وتؤمن للقضاة حصانة تحصنهم من خوف السلطان حاضراً، والقلق من المستقبل على أسرهم وعيالهم وبذا نضمن حصنا هاما من الحصون التي تحمي المجتمع كله من غول الطغيان والعسف والجور وتطمئن الناس على مستقبلهم.