قال محدثي مستذكراً الماضي المأساة: “كنا مجموعة مؤلفة من حوالي خمسين معتقلاً في ذلك اليوم من ربيع 1981 عندما عرضنا أمام القاضي سليمان الخطيب لمحاكمتنا. لم تستغرق الأحكام علينا جميعاً أكثر من 45 دقيقة. حُكمت سنتين لكنني أمضيت في سجن تدمر 11 عاماً. جرمت بتهمة إخفاء معلومات. كان لنا في الحي جار معروف بانتمائه للإخوان المسلمين من الأربعينيات، اعتقل فترات عديدة في فترة حكم البعث. وهو معروف للقاصي والداني بتوجهاته وأفكاره التي لم يكن يخفيها عن أحد. وجريمتي أنه كان يسكن في نفس الحي والشارع الذي كنت فيه ولم أبادر بكتابة التقارير عنه .. هكذا ألصق بي وبآخرين من أهل الحي جريمة إخفاء معلومات وعدم المسارعة إلى إخبار السلطات عن حركات وسكنات هذا الجار (الطيب). بنفس التهمة وبنفس الملابسات والظروف اعتقل جار آخر، وكانت محاكمته في نفس اليوم الذي مثلت قيه أمام المحكمة المهزلة، وحكم عليه القاضي بستة أشهر. قال للقاضي: هل سيطلقون سراحي فقد مضى على اعتقالي عشرة أشهر. نظر قاضي محكمة أمن الدولة إليه بهزء واستخفاف وأمره أن ينصرف، ولم يطلق سراحه إلا معنا في عام 1991.
سألت محدثي عن المحكمة والقاضي والقانون والإدعاء والدفاع والشهود. قال مختصراً التفاصيل المملة: لا يوجد إلا القاضي وكان يومها سليمان الخطيب، ومعه مساعد يسجل ما يمليه عليه. ملف المعتقل وهو جملة ما يرد من فرع المخابرات أو التحقيق وما يحتويه هذا الملف من اعترافات انتزعت تحت التعذيب أو أثبتها المحقق حتى دون أن يعترف بها المعتقل. أما القانون والأحكام فكانت على مزاجية القاضي. كثير من الذين لم تثبت عليهم تهمة الانتماء إلى الإخوان المسلمين ألصق بهم تهم أخرى، مثل إخفاء معلومات وعدم المسارعة لإخبار الأجهزة الأمنية عن أشخاص يشتبه بصلتهم بالإخوان المسلمين. وكانت الأحكام في هذه الحالة تتراوح بين البراءة والسجن لمدد مختلفة قد تصل إلى المؤبد. لكن هذه الأحكام لم تكن تعني شيئاً أكثر من التعذيب النفسي للمعتقل إذ لم يفرج عن أحد في تلك الفترة، واستمر الجميع بمن فيهم الذين حكم ببراءتهم حتى أول دفعة من الإفراجات عام 1991. حكم على الأستاذ الجامعي (س) بالمؤبد بتهمة إخفاء معلومات عن أشخاص مطلوبين للتحقيق. وقضى تحت التعذيب. كثير من الذين حكم ببراءتهم ماتوا تحت التعذيب في ساحات وزنزانات سجن تدمر.
قلت لصاحبي: حدثني عن الحريات المتاحة في سجن تدمر والحقوق التي كنتم تتمتعون بها؟
هز رأسه قائلاً: لا توجد حريات ولا حقوق، حتى حرية النظر كانت ممنوعة، وحرية التفكير أو الشرود الذهني كانت ممنوعة. كم من سجين عذب حتى وصل إلى شفير الهلاك لأنه نظر إلى أحد الحرس أو السجانين بدون قصد منه، كان مطلوب منا أن نطأطأ الرأس دائما ولا ننظر إلى الحرس والسجانين. وكم من سجين تلقى وجبة دسمة من التعذيب وسالت دماؤه لأنه عثر عليه متلبثا بشرود الذهن أو على وضعية توحي بالتفكير. حتى حرية العبادة كانت ممنوعة: كان في مهجعنا رجل مسن وأولاده الأربعة من ميسوري الحال من محافظة إدلب، وذات يوم جمعنا مدير السجن الرائد فيصل الغانم وسألنا عن طلباتنا. قال له الرجل المسن: تعلم يا سيدي أني جاوزت الخامسة والستين وأنا في صحة عليلة ومشرف على الموت في أي لحظة أناشدك بالسماح لي بالصلاة. أجابه الغانم: ومن يمنعك من الصلاة! استغل آخر المناسبة، وقال: يمكننا إذن أن نصلي. قال فيصل الغانم محاولاً توضيح الأمر من وجهة نظر شرعية: إن الصلاة تحتاج إلى طهارة ونقاء وأنتم تعيشون في نجاسة ودماء، كل المكان نجس: الأرض نجسة والبطانيات نجسة والماء قليل وهذا لا يليق بمقام الصلاة. وبعد مغادرة مدير السجن، قام الرجل المسن فتوضأ وشرع في الصلاة بناء على الإذن الذي حصل عليه من فيصل الغانم، لكن أحد الحراس رآه وعلّمه من خلال نافذة سطح المهجع. وفي صباح اليوم التالي نودي على من كان متلبساً بجريمة الصلاة فخرج الرجل المسن لينال قسطاً كبيراً من التعذيب، وعندما أعيد مسحوباً بعد ساعتين إلى المهجع كان مغشياً عليه والدماء تسيل من أنحاء جسمه، ثم ما لبث أن مات متأثراً بهذه الوجبة التي لا تحتمل من التعذيب – رحمه الله.
سألت صاحبي: هل يفهم من هذه الحادثة أن الدين كان المستهدف؟
أجاب من فوره: هذا ما تأكدنا منه. إنهم كانوا يتقصدون إيذاءنا في ديننا، وكانوا يفصحون عن كراهيتهم للإسلام والمتدينين، بل وكانوا واضحين في التعبير عنها بصور شتى من التعذيب والشتم والتحقير المستمر لكل المقدسات. كان جميع حرس السجن من الذين باعوا ضمائرهم وعقولهم لإرواء غريزة التعذيب والقتل والولوغ في الإيذاء. كثير من المعتقلين مثلي لم يكن لهم علاقة بالإخوان المسلمين، لكن كان يصب فوق رؤوسنا حمم من العذاب لا طاقة للجبال بها. كان حقدهم لا حدود له، وكراهيتهم لا حدود لها وهمجيتهم لا حدود لها. إن ما نسمعه عن غوانتانامو لا يعدو أن يكون نقطة صغيرة في متاهات تحقير الإنسان وتعذيبه في سجن تدمر! هذا السجن الذي سيبقى ما حدث في جنباته وزواياه المظلمة وصمة عار لا تمحى في جبين نظام الأسد على مدار الزمان، مهما ابتعد الزمان.
صف لي حياتكم في سجن تدمر؟
قال والأسى يغطي محياه الواهن: لقد حولوا مظاهر الحياة وأنشطتها إلى ألوان شتى من التعذيب: النوم تعذيب، واليقظة تعذيب، والطعام تعذيب، والحمام تعذيب، والحلاقة تعذيب، والتعذيب تعذيب، حتى هانت الحياة على الكثير وتمنى بعض السجناء الموت من شدة التعذيب. أصبح منظر الدماء مألوفا، ومنظر الرؤوس المفتوحة مألوفاً ومنظر الذين يموتون تحت التعذيب مألوفاً. في كل يوم هناك موت في المهجع وموت في ساحات الإعدام وموت في باحات التنفس. وفي كل يوم هناك ترقب لما هو أسوأ. أما إن أردت تفصيلا فاقرأ كتاب “تدمر شاهد ومشهود” لزميل السجن “محمد سليم حماد” ففيه وصف دقيق موثق لبعض ما كان يجرى، وهناك ما هو أكثر هولاً لم يضمنه دفتي الكتاب، ربما نسي أو أشفق على القارئ.
وهل رأيت محمد سليم حماد في السجن؟
نعم اجتمعت معه سنتين في مهجع واحد، وكان شاباً لامعاً لماحاً صاحب ذاكرة قوية، وكتابه مما يعتمد عليه في توثيق سيرة العذاب والمهانة التي عاناها المعتقلون في سجن تدمر.
كيف كانت حياتك بعض إطلاق سراحك؟
بعد الخروج من السجن عام 1991، كان عليّ أن أبدأ حياتي من قبل نقطة الصفر، فقدت عملي وحقوقي المدنية. كانت أسرتي في حالة مزرية من الحاجة والفاقة .. بحثت عن أي عمل، وعلى الرغم من التعاطف الضمني من كثير من الناس فلم أجد العمل المناسب. ثم لجأت للحصول على جواز سفر للعمل في الدول المجاورة. تعثر الحصول على جواز السفر عدة سنوات، ثم استطعت أن أحصل على جواز سفر لمدة سنتين، وبعد انتهاء السنتين لم يوافق على تجديده مرة أخرى، وها قد مضى وقت وأنا مخالف في الإقامة هنا بسبب انتهاء صلاحية جواز السفر، وعلى الرغم من المراجعات والمناشدات يرفضون تجديد جواز سفري هنا في السفارة السورية ويقولون: تقضي التعليمات الواردة بعودتك الفورية إلى البلد. وهذا يعني بالنسبة لي فقدان مصدر المعيشة، وقد يكون وراء العودة مضايقات أخرى. فالذين أطلق سراحهم مطلوب منهم مراجعة فروع الأمن التي اعتقلتهم وتقديم تقارير ومعلومات، ومن لا يفعل ذلك يلقى عنتاً ومضايقة تصل إلى الاعتقال مرة أخرى في بعض الأحيان.
أراك تنظر إلى الحياة بسوادوية؟
لا أبداً فأنا منسجم تماماً مع ما قدر لي وأحتسبه عند الله. لكنها الورطة الرهيبة التي أوقع النظام فيها البلاد وشرخ فيها الناس وصنفهم، وعاملهم على أساس هذا التصنيف الظالم. دمر سورية وإعادة البناء ليست سهلة. لقد كنا نحس ذلك في السجن. كانوا يقولون لنا: ادع ربكم ينجيكم منا. نحن قدركم المحتوم سنفعل كذا وكذا بكم وبدينكم وبأمهاتكم وأخواتكم. لم يكن بيدنا حيلة أن نقول حرفاً واحدا لهم، لكنهم كانوا يلحون على فكرة الانقسام الطائفي والاستعلاء الطائفي وإذلالنا على أساس طائفي. وكلما حاولنا استبعاد هذه الفكرة ونسيانها كانوا يؤكدون عليها.
لماذا تحفظت على ذكر اسمك وتفصيلاتك الشخصية في هذه المقابلة؟
إذا ذُكر اسمي فهذا يعني عودتي المؤكدة إلى السجن. لا توجد حريات في سورية للتعبير عن الرأي، ولا توجد حريات لكتابة سيرة المعاناة. ولا يوجد من ينصف المظلوم ويعين الكل. الحياة الرسمية هي ممارسة القهر فوق المواطنين ولم أجد وجهاً إنسانياً لنظام الحكم في بلدنا المغلوب على أمره.