تستلم اللجنة السورية لحقوق الإنسان باستمرار رسائل من المواطنين السوريين سواء من داخل سورية أو من خارجها يعبرون فيها عن معاناتهم وعن الانتهاكات المستمرة التي يتعرضون لها، وكثير منهم من يطلب المساعدة ومد يد العون… والرسالة التالية التي استلمناها مؤخراً ليست إلا نموذجاً لمعاناة شعب يئن تحت سيطرة حكم أمني متسلط.
اللجنة السورية لحقوق الإنسان
6/4/2000
رسالة من مواطن سوري إلى اللجنة السورية لحقوق الإنسان
إلى الأستاذ رئيس اللجنة السورية لحقوق الإنسان
تحية صادقة وبعد
فأنا المواطن السوري (ن.م.ح)، اطلعت على ما نشرته اللجنة السورية لحقوق الإنسان عبر شبكة الإنترنت، وإن كانت هذه الشبكة لم تنتشر في سورية إلا بصورة ضيقة لم تتجاوز دوائر الدولة الرسمية، إلا أن انتشارها في لبنان وكثافة الاتصال بين المواطنين في سورية ولبنان سهل اطلاع كثير من المواطنين السوريين عليها، وبخاصة أن أي خبر يتحدث عن آلام المواطنين الذين لا يحق لهم (أن يأنّوا) بصوت مرتفع تجعل هذا الخبر مشوقاً، ومطلوباً من الناس. لذلك فإن العاملين في الأجهزة الأمنية الذين يطلعون على نشراتكم ينقلون محتوياتها إلى ذويهم من قبيل التباهي بالاطلاع على ما لم يطلع عليه غيرهم، وإن ذويهم يتحدثون أيضاً عن ذلك وبذات الدوافع ونحن المواطنون العاديون نتابع ما يتناقله هؤلاء.
إضافة إلى ذلك فإن عامة الناس يتناقلون بياناتكم وتقاريركم وتقارير المنظمات العالمية الأخرى بوسائل مختلفة عن حقوقنا نحن (البشر) الذين يعيشون في سورية.
إنني أشكركم، وأعلم أن كثيراً ممن يطلع على تقاريركم من شعب سورية يشكركم، ويشكر كل المنظمات الدولية التي تتحدث عن معاناته.
ولكن لماذا يا سيدي لا تتكلمون إلا عن جزء من الحقيقة ؟ هل لأنكم لا تعرفون الحقيقة كاملة؟ أم أن الحقيقة لفظاعتها لا تصدق ؟ وأنتم تريدون أن تتحدثوا بكلام يصدقه الناس الذين يعيشون في أمن ورخاء ولا يخطر على بالهم ما نعانيه في سورية من شر وبلاء وانتهاك لأبسط الحقوق؟
من أجل ذلك عزمت يا سيدي أن أكتب إليكم هذه الرسالة، وقد أرسلتها من لبنان بعد شهر من كتابتها لتعذر إرسالها من سورية خشية أن تقع في أيدي رجال الأمن .
إنني لا أستطيع في هذه الرسالة أن أكتب كل شيء عما يعانيه المواطن السوري من انتهاكات صارخة لحقوقه الإنسانية، وإنما أكتفي بتقديم صورتين ناطقتين تعبران عن معاناة المواطن السوري.
الصورة الأولى: من موطني الأصلي ومسقط رأسي بلدة الحفة التابعة لمحافظة اللاذقية
والصورة الثانية: من موطن إقامتي الحالية وهي مدينة دمشق.
الأولى: إن بلدة الحفة وهي بلدة صغيرة تقع على الطريق بين اللاذقية وبين مصيف صلنفة، يبلغ عدد سكانها 11 ألف نسمة، يتوزعون على الطوائف الثلاث المسلمة والعلوية والمسيحية التي تعايشت دون مشاكل مذهبية أو سياسية لبضع مئات من السنين. هذه المدينة الوادعة تحتلها ثلاثة من فروع الأمن، يبلغ عدد ملاكاتها 145 موظفاً، وفيها جهاز من المخبرين العاملين في خدمة الأمن لكنهم ليسوا من ملاكه الرسمي، ولا يقبضون رواتب منتظمة وإنما يقبضون على الخبر وعددهم حوالي 350 مخبراً.
هذه البلدة التي نصف عدد سكانها من النساء و65% من ذكورها تحت سن الثامنة عشرة (هذه نسبة الفتيان من الفئة العمرية في المجتمع السوري) تضم 550 شخصاً يعملون في خدمة الأمن، بينما عدد ذكورها الذين يتجاوز سنهم 18 عاماً هو 1925 شخصاً .
لنفترض الآن أن كل واحد من هؤلاء يحترف السياسة، فإن نسبة العاملين في الأمن إلى المجتمع ستكون واحد إلى أربعة. أما إذا أخذنا أرقاماً واقعية وهي أن نسبة العاملين في السياسة بمن فيهم المنتسبون إلى أحزاب السلطة ونقاباتها واتحاداتها ومنظماتها لا تتجاوز نسبة 10% من السكان، فإننا سنجد أنفسنا أمام واقع مذهل يجعل لكل مهتم بالشؤون العامة مهما كان انتماؤه السياسي، أربعة مخبرين وموظفََين في الأمن يتفرغون لمتابعته ليلاً ونهاراً بدون كلل أو تعب.
الثانية: إن الصورة الثانية التي أنقلها لكم هي من دمشق مكان عملي وإقامتي الحالية: لما كانت بلدة الحفة صغيرة يعرف سكانها بعضهم بعضاً، لذلك فإن الصورة التي نقلتها أعلاه معروفة لدى أي مواطن عادي في الحفة. أما في دمشق التي تعد بالملايين، فلا يمكن لواحد مثلي أن يعرف عدد العاملين في أجهزة الأمن ولا حتى عدد الأجهزة الأمنية، لأن هناك أجهزة بعدد الحقول والمجالات التي تغطيها، مثلاً : الأمن الخارجي، الأمن الداخلي، أمن الدولة، المخابرات العامة، الأمن العسكري، الأمن السياسي، أمن الرئاسة، مخابرات القوى الجوية… وتوجد فروع أمنية متعددة تابعة للأمن العسكري هي فرع المنطقة المتخصصة بمنطقة دمشق العسكرية وبالجبهة القريبة منها، وفرع فلسطين المتخصص بملاحقة الفلسطينيين، وفرع التحقيق العسكري الذي يمر عبره جميع معتقلي الأمن العسكري ويفرزون منه إلى السجون.
لكن بعض العارفين يعتقدون أن العاملين في مختلف الأجهزة الأمنية في دمشق يتراوح عددهم بين 250 -300 ألف موظفاً. وتولي أجهزة الأمن القطاعات الطلابية والعمالية اهتماماً خاصاً، بالنظر إلى تجمع أعداد كبيرة نسبياً من العمال والفلاحين في أماكن الدراسة والعمل وخاصة طلبة الجامعات بسبب درجة الوعي لديهم فإنهم يخضعون لرقابة صارمة من أجهزة الأمن ، ومن الاتحاد الوطني لطلبة سورية (المنظمة الطلابية التي يفترض أنها تمثل المصالح المهنية للطلبة لكنها تملك جهازاً أمنياً خاصاً بالجامعات يضم فرعاً للمداهمة).
وتتركز في المصانع السورية وحدات من أجهزة الأمن المختلفة بأسماء صريحة أو مستعارة (مثل اللجان النقابية الخاصة) تعمل بالتعاون مع مخبرين يجندهم الأمن من العمال كي يراقبوا زملاءهم خلال العمل، وإن بقية قطاعات المجتمع ليست بمنأى عن الرقابة، والملاحظة الأمنية المكثفة فالرقابة شاملة والحضور الأمني مكثف ودائم في كل مكان يتعرض لهما الكبار والصغار من النساء والرجال في البيوت، والأحياء ، والمتاجر ، والمدارس ، والمساجد ، والكنائس ، في الكراجات وسيارات النقل العام والخاص (30% من سيارات التاكسي في مدينة دمشق هي ملك للأمن ويعمل عليها عناصر منه. وكثيراً من هذه السيارات مزودة بأجهزة للتنصت والتسجيل).
ولرسم لوحة تبين حجم الرقابة التي يخضع لها المواطنون العاديون. نكتفي بالقول أن المواطن يخضع للملاحقة والرقابة طيلة الوقت بين استيقاظه وعودته إلى النوم إن هو لم يعتقل خلال هذه الفترة، حيث يتعرض لأجهزة التسجيل المبثوثة في مكان حوله تقريباً.
يستيقظ المواطن العادي (أي غير النشيط سياسياً وغير المهتم بالسياسة) ليجد مخبري الأمن في انتظاره أمام الأفران، والمجمعات الاستهلاكية والأسواق وبداخلها، حيث يترصدونه، ويراقبونه، ويتدخلون لزجره أو حتى لاعتقاله إن هو تذمر من نوعية البضائع المباعة له، أو من عدم وجود أي بضائع أو خضار، أو مواد غذائية، أو احتج على المعاملة التمييزية والتعسفية التي يلقاها من رجال الأمن وأزلام السلطة الذين لا يقفون بالدور كما يقف المواطنون ويأخذون كمية السلع التي يطلبونها والتي تزيد عن حاجتهم وتكون أحسن ما هو معروض للبيع. وهناك قصص يتداولها الناس حول سيدات مسنات، احتججن على هذه المعاملة التمييزية في الاستهلاكيات أو أمام الأفران فقص رجال الأمن شعورهن، أو تعرضن للضرب والسباب واعتقلن لساعات عوملن خلالها أسوأ معاملة من قبل إعادتهن للمكان الذي اعتقلن منه ليكن عبرة للناس.
وإذا عاد المواطن لبيته بعد شراء الخبز، فإنه سيقصد بعدها موقفاً من مواقف الباصات في طريقه إلى عمله حيث سينتظر لفترة تصل في بعض الأحيان إلى ساعة كاملة. وعندما يأتي الباص يصعد فيه عدد من المخبرين ورجال الأمن المبثوثين في جميع محطات الباصات وسيارات النقل العام للاستماع إلى ما يقوله الناس، ولا يستبعد أن يشتم أحدهم السلطة التي تترك المواطنين يعانون بينما رجالها يركبون أفخر السيارات التي دفع هو وأمثاله من المواطنين ثمنها، ليتعرف على رودود أفعالهم ، فمن سكت منهم وتصنع عدم سماع الشتائم وصل بسلام إلى عمله حيث يرى عند بوابة الوزارة أو المصنع أو المؤسسة حراسات أمنية شاكية السلاح، ورجال الأمن المسلحين حتى أسنانهم، ووجد من يجلس وراء طاولته أو يقف قرب آلته أحد أعضاء المنظمة الحزبية أو أحد المخبرين السريين ممن يحصون عليه أنفاسه ويتفرسون في مراجعيه وضيوفه، بل إنهم يسألونه عنهم إذا كانت زيارتهم إليه للمرة الأولى، أو إذا أطالوا الزيارة. وفي طريق عودته بعد انتهاء عمله عصراً سيلاحظ مهما كانت قدرته على الملاحظة محدودة الأعداد الهائلة من بائعي الخضار الذين يدفعون أمامهم عربات خشبية وسيكتشف إذا حدث أمر ما أنها مزودة بجهاز لاسلكي. وفي حالات كثيرة يلاحظ المواطن الأعداد الكبيرة من بائعي اليانصيب وماسحي الأحذية، ومن الباعة الذين يرصفون بضاعتهم على الأرصفة داخل الحارات، والمتسكعين الذين يسيرون في الشوارع بمجموعات قليلة بين شخصين وثلاثة أشخاص. كما سيلاحظ كل إنسان العدد الهائل من أكشاك الحراسة أما بيوت المسئولين في الجيش والأمن والوزارات، وأعداد أكشاك بيع الصحف في الزوايا الاستراتيجية من المدينة.
أقامت وزارة الإعلام أكشاكاًُ لبيع الصحف في مدينة دمشق بلغ عددها 55 كشكاً، ما لبث فرع الأمن الداخلي الذي يترأسه محمد ناصيف أن نزعها ووضع فيها رجاله، وزود كل كشك بجهاز هاتف، كالكشك الذي يقع أمام مبنى الهاتف الآلي وكشك ساحة العباسيين.
أما ما لا يراه المواطنون فهي البيوت المسدلة النوافذ التي استأجرها جهاز الأمن في مختلف أنحاء المدينة والتي ركب فيها أجهزة رقابة وتنصت حديثة يستمعون من خلالها إلى ما يجري في البيوت والشوارع ويراقبون الأشخاص الذين يتجولون في الشوارع، ولعل بعض المسلسات السورية التي يعرضها التلفزيون السوري تعكس هذه الظاهرة بدون حياء، ظاهرة استئجار بيوت في الأحياء والتنصت على المواطنين وابتزاز رجال الأمن للمواطنين. ويرى المواطن السوري السيارات التي تقف في الليل مطفأة الأنوار في الزوايا والمنعطفات، وقد جلس ركابها يراقبون من حولهم، تتوهج رؤوس سجائرهم في عتمة الليل وينبعث دخانها من سياراتهم وقد ركزوا أنظارهم على المارة المتأخرين أو أوقفوهم وفتشوهم وطلبوا هويتهم وعنوانهم ورافقوهم في كثير من الأحيان إلى بيوتهم ليتأكدوا من أنهم لم يكذبوا عليهم.
إذا انقضى النهار بسلام وجلس المواطن أمام التلفاز وتفوه بما يعتلج في صدره من التذمر من الأخبار والبرامج التي لا تدور إلا حول الرئيس القائد المحنك، والبطل المغوار، والأب الرحيم، والمناضل الوحيد، وباني سورية الحديثة، العامل الأول، والصحفي الأول، والعسكري الأول، والرياضي الأول، الذي سيقود سورية وجميع العرب والإنسانية وإلى الأبد … فإن أحد أطفاله قد يوقعه في الفخ ببراءة الأطفال عندما يذكر أمام أقرانه بأن والده قد شتم البابا حافظ، الذي لقن في المدرسة أن يجعل منه إلهاً وقالوا له إنه أفضل من أبيه الذي أنجبه وأنه هو أبوه وأبو الشعب الذي يجب عليه أن يحبه أكثر من أبيه الاجتماعي.
أرجو ألا أكون قد أثقلت عليكم بطول الرسالة ولكنني لا أملك من البلاغة ما يجعلني أصور لكم هاتين الصورتين عن أوضاع حقوق الإنسان في سورية بأقل من هذا الكلام ودمتم لنصرة حقوق الإنسان المنتهكة في سورية.
المواطن السوري ن.م.ح 22/1/2000