شهدت الفترة التي أعقبت وفاة الرئيس السوري السابق حافظ الأسد وما تلاها من فترة الحداد عليه خروقاً وانتهاكات لحقوق الإنسان السوري من نوع جديد، لم يجربه الشعب السوري من قبل، ولقد تعاملت السلطات الأمنية والمخابراتية المتحكمة مع عامة الشعب باحتقار وقسوة، ونورد فيما يلي بعض النماذج من هذه الانتهاكات الخطيرة:
أولاً : إجبار الناس على الحزن والبكاء
عقب وفاة الرئيس حافظ الأسد لجأت السلطات الأمنية في أنحاء سورية إلى إرغام الناس على الحزن على الرئيس الأسد، ولقد علمت اللجنة السورية لحقوق الإنسان عن خروق كثيرة من شهود عيان أو ممن يهمهم الأمر، الذين لحقت بهم أضرار جسيمة نتيجة ممارسة أعمالهم أو هواياتهم قبل علمهم بوفاة الرئيس الأسد. فلقد روى لنا أحد أصحاب المحلات التجارية كيف انقض عناصر الأمن على متجره وهشموا الواجهة الزجاجية التي تكلف مئات الآلاف من الليرات السورية لأن جهاز المذياع كان يذيع برنامجاً فكاهياً . حدث ذلك بعد دقائق من وفاة الأسد وقبل علم صاحب المتجر بالخبر. وروى لنا أحد العاملين في ورشة بناء كيف هجم عليهم عناصر المخابرات بالكابلات وبسيل من الشتائم السافلة والسباب لأن المذياع كان مفتوحاً على أغنية، وذلك قبل علمهم بموت الأسد. ولما حاول أحدهم أن يستفسر عن سبب غضب عناصر دورية المخابرات، اقتادوه معهم في سيارة المخابرات ولا يعلم أحد عنه شيئاً إلى تاريخ تحرير هذا التقرير. وروى لنا قريب أحد الطلاب في الجامعة أن الأوامر صدرت إليهم بالبكاء على (أبيهم الرئيس الخالد حافظ الأسد) ، فبكوا وتباكوا ، غير أن أحد الطلاب قال لزميله إنني أبكي عليه لكنه ليس أبي، بعد هذه الكلمة بنصف ساعة اختفى الطالب وما زال مختفياً (أي معتقلاً) .
وقد أمرت السلطات الأمنية بتوشيح الشوارع وواجهات المحلات التجارية والساحات باللون الأسود ، حتى أن القماش الأسود أصبح سلعة نادرة، وكل من لم يسارع إلى لف واجهة محله ومنزله ومكتبه بالسواد وبصورة ضخمة للراحل الخالد ، لا يدري ما تؤول إليه حاله. ولقد انتقم رجال المخابرات والأمن من عدد كبير من الناس لافتقار واجهات محلاتهم إلى اللون الأسود .
وعمم كذلك بإطفاء الأنوار وتعتيم الشوارع في الليل وإطفاء أنوار واجهات المحلات التجارية التي تظل عادة مضاءة أثناء الليل، ولقد تسبب ذلك في حالات إطلاق النار على بعض المشاة في الليل ، وتسبب أيضاً في إصابة المواطنين بالذعر والالتجاء إلى مساكنهم وعدم مبارحتها، والأكثر من ذلك ما تسبب من حوادث سرقة المحلات، ولقد ألقى كثير من أصحاب هذه المحلات بالمسئولية على عناصر الأمن ، الذين انتهزوا هذه الفرصة لسلب ممتلكات المواطنين ونهبها.
ثانياً: حرمان المواطنين من الغذاء والدواء نتيجة إغلاق المحلات
عقب موت الرئيس حافظ الأسد أمرت السلطات الأمنية الحاكمة بإغلاق المخابز والمطاعم ومحلات المواد الغذائية والملابس والصيدليات وسائر الحوانيت … ولقد مرت عدة أيام، أصاب الناس فيها ضنك شديد، بحيث لم يحصلوا فيه على الخبز الذي يعتبر الطعام الأساسي ، حتى أن كثيراً من الأطفال عانوا معاناة شديدة بسبب حاجتهم إلى الغذاء والدواء وغير ذلك من المستلزمات. ولم يجرؤ أحد من الناس على فتح حانوته حتى قدم بعض كبار المسئولين في الحزب التماساً بالسماح للمخابز والمطاعم ومحلات المواد الغذائية باستئناف العمل . ولقد روى لنا شقيق أحد التجار الذي ترتبط تجارته بعقود خارجية ومدد محددة كيف اعتقل لأنه حاول فتح متجره لإنجاز العقد في مدته ، ولم يعرف عن مصيره شيء بعد ذلك. وروى لنا سكان أحد الأحياء أن أحد صاحب أحد المخابز شرع في عمله كالمعتاد ، وبعد ساعة من بدء العمل هاجمته دورية من المخابرات واقتادوه ومن معه من العمال إلى فرع المخابرات ولم يفرج عنهم إلا في اليوم التالي ، ولما شكا الجيران أن بيت النار مازال مشتعلاً لم يكترثوا بالأمر مما اضطر السكان المجاورين أن يخلوا منازلهم خوفاً من حدوث انفجار أو حريق … ولم يعودوا إلا بعد أن نفد الوقود وخبت شعلة النار. من جهة أخرى فلقد حدثت حالات كثيرة من الإغماء بسبب الإعياء لنقص الغذاء أو الدواء في هذه الفترة.
ثالثاً: إرغام الناس على التظاهر
لعل إرغام الناس على المشاركة في المسيرات إظهاراً للحزن على موت الأسد كانت الأكثر شيوعاً ، فلقد طُلب من الرفاق البعثيين ومن طلاب المدارس والموظفين المشاركة على وجه الفرض بدون أن يترك لهم الخيار … ولقد اتخذت إجراءات صارمة بحق كل من تخلف عن المشاركة في المسيرات بعذر أو بغير عذر. وفي حين أعلن على شاشات التلفزيون العربي السوري والقناة السورية الفضائية بأن الناس انطلقوا بصورة عفوية للتعبير عن المصاب الأليم ، فإن الواقع والحقيقة أظهرتا خلاف ذلك، حتى أن كثيراً من الرفاق البعثيين، وعدداً كبيراً من طائفة الرئيس المتوفى عبروا عن استيائهم واشمئزازهم للطريقة الهمجية التي حشر الناس فيها وأرغموا على البكاء والتباكي والندب على الميت والصراخ بهتافات لا تعني شيئاً، سوى تكريس الاستبداد وحكم العائلة وعبادة صنم ذهب إلى غير رجعة من هذه الحياة.
روت لنا معلمة بعثية بأنها استدعيت إلى فرع المخابرات للتحقيق معها بسبب تغيبها عن مسيرة حزن على الرئيس الراحل، فقالت لهم لا أعلم أنكم اتصلتم بي وطلبتم ذلك مني ، فكان رد المحقق الشتائم والإهانة والضرب، حتى أتعلم درساً في المبادرة على الحزن والنواح على الأب والقائد إلى الأبد (حافظ الأسد) ، وقالت المعلمة المذكورة بأنهم أبقوها في فرع المخابرات من الصباح حتى وقت متأخر من الليل، في جو من الذعر حتى ظنت بأنها معتقلة ، ولم يفرج عنها إلا تحت تهديد بأن تقدم لهم تقريراً أسبوعياً عن زميلاتها في المدرسة وعن جيرانها وأهل حيها.
وذكر لنا شاب أنهم كانوا يجمعونهم ويعلمونهم الشعارات التي يجب عليهم أن يقولوها في المسيرات، وكيف يجب عليهم التعامل مع كاميرات الإعلام الخارجي والقنوات الفضائية العالمية لتبدو تصرفاتهم عفوية وصادقة، لكن وسائل الإعلام المستقلة كشفت زيف ذلك بسرعة.
ولقد رويت لنا روايات مؤسفة عن عمليات الإغماء المصطنعة وخصوصاً أمام كاميرات المراسلين الأجانب، إلا أن بعض هذه الإغماءات كانت حقيقية ويرجع سبب معظمها إلى الخوف من عناصر الأمن ، وبعضها كان وسيلة للتخلص من النفاق والرياء الإجباري.
ولقد روى لنا كثير من المشاركين في هذه المظاهرات عن الوجود المكثف لعناصر المخابرات التي كانت تنظم هذه المسيرات، وترصد حركات المشاركين وتعد عليهم أنفاسهم وحركاتهم. ولقد سمعت اللجنة السورية لحقوق الإنسان بأسماء أناس اختفوا أثناء مشاركتهم في المظاهرات ولم يعودوا إلى منازلهم حتى تاريخ إعداد هذا التقرير.
رابعاً : منع الناس من الاحتفالات الخاصة
ابتداء من لحظة وفاة الرئيس السابق حافظ الأسد وعلى مدى أربعين يوماً منع الناس من إقامة أي نوع من الاحتفالات الخاصة لأي سبب من الأسباب، مما اضطر الناس إلى تأجيل مناسبات الأفراح والزفاف وغيرها. وأمرت المحاكم الشرعية بالتوقف عن تسجيل أي واقعة زواج حتى انتهاء فترة الحداد على الرئيس المتوفى لمدة أربعين يوماً. ومما اشتهر أن سلطات الأمن والمخابرات اعتقلت مجموعة من المواطنين كانوا يحتفلون بزفاف أحد الأقارب في المنطقة الشرقية ، أخذوا جميعاً رجالاً ونساءً بمن فيهم العروسان ، ولم يطلق سراحهم أو يعرف عن مصيرهم حتى وقت إعداد هذه التقرير. ولقد سمعنا عن حوادث مشابهة في مناطق متفرقة من البلاد.
كثير من السوريين المقيمين في الدول المجاورة قدموا في فترة الصيف، وكان بعضهم قد أعد ترتيباته للزواج، إلا أنهم اضطروا جميعاً إلى تأجيل زواجهم حتى تنتهي فترة الحداد. وحتى بعد انتهاء هذه الفترة، قامت عناصر الأمن والمخابرات بين الحين والآخر بمداهمة الناس في حفلاتهم وإفسادها عليهم وإهانتهم.
خامساً: تعطيل مصالح المواطنين
كان موت الرئيس حافظ الأسد مناسبة كبرى لتعطيل مصالح الناس وابتزازهم مالياً وأمنياً. فبسبب إعلان الحداد ، استغل الموظفون الفاسدون والعناصر الأمنية الطائفية الفرصة لابتزاز الناس مالياً وأمنياً. إذا تفوه مراجع بكلمة تعطل مصلحته ويكتب بحقه تقرير، يستدعى على أثره إلى أحد فروع المخابرات للتحقيق معه. من الأمثلة ما رواه زوج سيدة ذهبت في العطلة الصيفية إلى سورية لقضاء عطلة الصيف مع أولادها الأربعة، وتقدمت أثناء وجودها بطلب تجديد جواز سفرها، وعندما امتنعت عن دفع رشوة كبيرة للموظف في إدارة الجوازات ، قيل لها بأن جواز سفرها يحتاج إلى فترة أطول للإنجاز بسبب فترة الحداد على الرئيس الراحل، فلما حاولت أن تستعجلهم بكلمة واحدة ، رفضوا منحها جواز سفر، ثم استدعيت إلى فرع مخابرات أمن الدولة وسحب منها جواز سفرها الأوربي ومنعت من مغادرة سورية والالتحاق بزوجها وعائلتها في أوروبا .
بعض الموظفين وعناصر الأمن والمخابرات الطائفيين ساءهم أن يتركوا الناس وشأنهم بدون مضايقة في هذه المناسبة ، فأفرغوا حقدهم وكراهيتهم الطائفية ضد عامة الشعب السوري ، وأشعروهم بالذل والمهانة قبل قضاء مصالحهم .
إن اللجنة السورية لحقوق الإنسان، وهي تسجل هذه الملاحظات السوداء والانتهاكات السيئة التي ارتكبتها أجهزة الأمن والمخابرات بحق الشعب في سورية، تنظر إلى المستقبل بقلق … إذ لم يتغير شيئاً من نظرة ونفسية ونهج النظام تجاه مواطنيه، ولم يضع الرئيس الجديد حداً لهذه الانتهاكات الخطيرة التي دمرت الشعب السوري، وأفسدت لحمته، وأغرت فيه مشاعر الكراهية والضغينة تجاه جلاديه ومن يلوذ بهم.
ومن أجل مصلحة الشعب وحريته، وحفاظاً على حقوقه الإنسانية وكرامته تطلب اللجنة السورية لحقوق الإنسان من النظام الجديد في سورية … وقف كل الانتهاكات التي ترتكب بحق شعبنا وأهلنا في سورية، وعدم التدخل في حياة الناس الخاصة وإطلاق سراح كافة الموقوفين في الفترة التي أعقبت وفاة الرئيس حافظ الأسد.