” يصل بعض الرجال ، ثم يقتحمون مسكن أسرة من الأسر ، غنية كانت أم فقيرة ، منزلاً كان أم سقيفة أم كوخاً ، في مدينة أم قرية ، في أي مكان . وهم يجيئون في أي وقت ، في النهار أو الليل ، يرتدون عادة ملابس عادية ، أو زياً رسمياً في بعض الأحيان ، ولكنهم يحملون السلاح دائماً . ثم أنهم يقومون دائماً ، دون إبداء أي أسباب أو إبراز أي أمر بالقبض ، ودون الإفصاح عن هويتهم غالباً أو عن السلطة التي يأتمرون بأمرها ، بجر فرد أو أكثر من أفراد الأسرة إلى سيارة مستخدمين العنف عند اللزوم.”
( من تقرير بعنوان – المختفون : أسلوب الرعب – من إعداد اللجنة المستقلة المعنية بالقضايا الإنسانية الدولية بلندن 1986)
كثيراً ما يحدث على هذا النحو الفصل الأول من المأساة التي تفضي إلى الاختفاء القسري للأشخاص ، الذي يعتبر من أبغض انتهاكات حقوق الإنسان. وهو شكل من أشكال العذاب بالنسبة للضحايا الذين يظلون على جهل بمصيرهم والذين كثيراً ما يعذبون ويخافون باستمرار على حياتهم من جهة ،وبالنسبة لأفراد الأسرة التي تتأرجح أحاسيسهم بين الأمل واليأس والذين ينتظرون ويتساءلون لسنوات كثيرة أحياناً وقد لا يتلقون أية أخبار من جهة ثانية . ويعلم الضحايا أن أسرهم تجهل الأماكن التي يوجدون فيها وأن فرص حضور من يمد لهم يد المساعدة ضئيلة. فهم بعد إقصائهم عن دائرة حماية القانون واختفائهم من المجتمع يحرمون بالفعل من جميع الحقوق ويصبحون تحت رحمة مختطفيهم . وإذا لم يكن الموت هو مآلهم وأخلي سبيلهم بعد هذا الكابوس ، فإنهم قد يعانون لمدة طويلة من الآثار الجسدية والنفسية المترتبة على هذا الشكل من أشكال تجريد الناس من صفاتهم الإنسانية الذي يقترن بالوحشية والتعذيب في كثير من الأحيان.
(صحيفة وقائع رقم 6 المنقحة : ص2)
هذا الوصف الدقيق يكاد ينطبق على ما تمارسه السلطات الأمنية في سورية منذ أكثر من 25 عاماً . فالضابط السوري خليل مصطفى بريز الذي انتقد أداء وزير الدفاع حافظ أسد في حرب حزيران/ يونيو 1967 في كتابه “سقوط الجولان” اختطف من لبنان تحت جنح الظلام، واختفى عن الوجود ربع قرن من الزمان ، ثم اكتشف أنه معتقل في سجن المزة … ولحسن حظه أنه أطلق سراحه مؤخراً ، ولم يقض مثل آلاف لم يعرف مصيرهم حتى الآن.
يصف السيد عبد الله الناجي بداية ظروف اختفائه أكثر من خمس سنوات في أقبية المعتقلات الأمنية السورية فيقول: ” جاءت دورية المخابرات لمنزلنا قبل أذان الفجر، واقتحموا المنزل دون أي إنذار، فلم أجدهم إلا فوق رأسي ، لقد اندفع أولئك الأوغاد داخل البيت وباشروا التفتيش ، استيقظت من نومي ، فطلبوا مني رفع يدي مستسلماً ، ثم فتشوا جميع الغرف جيداً ، لعلهم يعثرون على كنز ثمين … بعد أن أنهوا التفتيش طلبوا مني الخروج، وهكذا قادوني معهم …. لقد أجلست بمقعد السيارة الخلفي ، وجلس عن يميني ويساري اثنان من عناصر المخابرات ، يحملان بنادقهما بينما جلس بالمقعد الأمامي السائق مع رئيس الدورية ، وانطلقت سيارتنا بالمقدمة ترافقها سيارة جيب تحمل خمسة عناصر آخرين. ” (حمامات الدم في سجن تدمر ص 13 ).
أما السيد محمد سليم حماد الذي اختفى أحد عشر عاماً في المعتقلات السورية السيئة السمعة فيروي لحظة اختطافه واعتقاله: وفي يوم الخميس الموافق للثامن من الشهر نفسه (10/1980) ذهبت عند الظهيرة إلى كلية الهندسة (جامعة دمشق) لحضور إحدى المحاضرات كالمعتاد. ولم تفاجئني في البداية مظاهر الحراسة المشددة وانتشار المسلحين على الأبواب لأن هذا الإجراء بات اعتيادياً هناك منذ شهور . لكن ما أن توقفت وقدمت بطاقتي لمسؤول الأمن حتى التف حولي عدد من المسلحين قاطعين علي أي تفكير بالهرب. وخلال دقائق لم أتمكن فيها من التقاط أنفاسي كانوا قد غطوا عيني وأوثقوا يدي ودفعوني إلى سيارة انطلقت بي كالزوبعة لتقذفني في مكان لا أعرفه ، تبين لي بعدها أنه فرع قيادة مخابرات منطقة العدوي الذي يرأسه العقيد نزار الحلو.” ( تدمر : شاهد ومشهود : ص:19-20)
وتتحدث السيدة هبة الدباغ التي اختفت تسع سنوات في سجون نظام الرئيس حافظ أسد فتقول: “…… بلغ مسمعي طرق على باب بيتنا أشد ما يكون .. وبينما كنت ألقي نظرة خاطفة من النافذة فألمح عدداً أصعب من أن أحصيه ساعتها من سيارات المخابرات تملأ الشارع .. أتاني الصوت على الباب يصيح : إذا لم تفتحوا فسنكسر القفل بالرصاص ! وبحركة آلية تناولت غطاء صلاتي فوضعته على رأسي وركضت باتجاه الباب بادئ الأمر .. لكنني لم أعرف ماذا أفعل ! أأفتح لهم والبنات كلهن نائمات ؟ أصابني الاضطراب والحيرة .. ثم وجدتني أهرع إلى فاطمة أكبرنا سناً وهي معلمة تشاطرنا السكن، فأيقظتها أولاً وأنا أقول لها بلا وعي : هيا .. كأن المخابرات أتوا عليك !
ثم لمع في خيالي أن شريكة أخرى في البيت معنا اسمها سوسن قد نفذوا حكم الإعدام بأخيها صباح اليوم في سجن تدمر كما بلغها وأبلغتنا ، فظنت أنهم إنما أتوا من اجلها .. خلال ذلك كان رجال المخابرات قد بدءوا بخلع الباب والضرب عليه بالبواريد ، فأسرعت فاطمة إلى حجابها فوضعته على رأسها وفتحت لهم .. ودخلوا… يا لطيف ! شيء غير معقول ! قفز واحد منهم إلى السقيفة فوراً يفتشها .. واندفع آخر إلى الشباك .. وثالث إلى المطبخ .. ورابع .. وعاشر .. ولم نجد إلا أحدهم يقتحم الغرفة علينا، وما أن رأى مصحفاً معلقاً على الجدار حتى انتزعه ورماه على الأرض وصار يدوسه بقدميه كالمهووس .. فيما راح آخرون ينبشون أمتعتنا وينقبون كل زاوية في خزائننا ونحن لا نكاد نستوعب لماذا أو ما الذي كانوا عنه يبحثون ! وفي غمرة المفاجأة سمعت واحداً منهم يصيح من الصالة: وهيبة الدباغ ! (خمس دقائق وحسب ص 13-14) ( وهكذا بدأت رحلة من الاختفاء القسري والاعتقال والتعذيب لهبة الدباغ استمرت تسع سنوات لم يعرف عنها أحد ولم تعرف عن أفراد أسرتها الذين أبادتهم قوات أمن نظام السوري بأكملهم في مجزرة حماة عام 1982) .
وتحدث إلى اللجنة السورية لحقوق الإنسان مؤخراً أحد الذين اختفوا لمدة 18 عاماً في معتقلات نظام الرئيس حافظ أسد فقال: ” كانت الثالثة ليلاً عندما استيقظت من نومي على صوت حفيف غير عادي في الشجرة الكبيرة في حديقة منزلنا، فظننتها ريحاً قوية في تلك الليلة الصيفية من شهر آب 1980، لكن ما كدت استسلم ثانية إلى الرقاد حتى صم أذني الرنين المتواصل لجرس المنزل. فقفزت من فراشي مذعورأً أحدث نفسي من يكون الطارق في هذه الساعة المتأخرة من الليل. وما أن وضعت رجلي خارج الغرفة في فناء المنزل المفتوح حتى سمعت أصواتاً من فوق السطح ومن فوق الشجرة ومن على الجدران تنادي بأن أقف وأرفع يدي إلى الأعلى. امتثلت بصورة آلية للأوامر وقد أصابني الذعر والذهول، وشعرت برعدة تدق ساقي، وكدت أسقط لولا خوفي من إطلاق الرصاص، وما هي إلا لحظات حتى كبلت يداي إلى الأمام وعصبت عيناي بجلدة سوداء ، وقادوني بدون أن يسألوني عن اسمي. وما هي إلا دقائق حتى وجدت نفسي ماثلاً أمام الرائد غازي كنعان، رئيس شعبة المخابرات العسكرية بحمص .” ( قصة م.س.ل. التي رواها للجنة السورية لحقوق الإنسان).
وتروي زوجة (أ.خ.) الذي اختفى من المصنع لمدة 18 سنة فتقول: “ذهبت إلى كل فروع المخابرات في حلب أسأل عن زوجي الذي لم يعد إلى المنزل، بينما روى بعض زملائه أن دورية مخابرات جاءت واقتادته مكبلاً معصوب العينين من مقر عمله . أنكر كل من سألته بوجود زوجي لديهم وشتموني واحتقروني وهددوني بالاعتقال إن عدت أسألهم مرة أخرى … حتى فقدت الأمل من الاستدلال عليه … وفي عام 1991 أي بعد 11 سنة استدعيت إلى فرع المخابرات العسكرية وحقق معي وسألوني عن زوجي … ثم أخبروني بأن زوجي كان معتقلاً لكنه مات في السجن ودفن، وبعد مدة جاءني أحد عناصر المخابرات العسكرية يريد الزواج مني فرفضت ورفض أهلي على اعتبار أني ما أزال متزوجة ، فقال لنا إنه مات في السجن، وسلموني بعض الملابس القديمة الممزقة الوسخة على اعتبارها ملابسه ثم مارس الضغط علي ليرغمني على قبول الزواج منه لكنني رفضت وقررت ألا أرضخ لطلب إنسان ولغ في دماء الناس وأعراضهم، ولو أدى ذلك إلى أوخم العواقب. وفي عام 1995 أفرج عن دفعة من المعتقلين وذكر بعض المفرج عنهم بأنهم رأوا زوجي في السجن ولا يزال حياً يرزق. ثم أفرج عنه بعد أن أمضى أكثر من 18 سنة لا يعرف شيئاً عنا ولم نعرف شيئاً عنه منذ انقطعت أخباره يوم اختفائه”.
اعتادت مخابرات النظام السوري أن تقطع أخبار المعتقلين السياسيين عن العالم ، وتمارس لتبرير ذلك كل الأساليب الباطنية التي تمرست هذه الأجهزة عليها. فبالإضافة إلى النماذج المذكورة أعلاه حدث في سورية أكثر من 70000 (سبعين ألف حالة اعتقال واختفاء لأسباب سياسية) خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات استخدمت فيها أساليب وحشية لا تمت إلى الإنسانية بصلة.
من هذه الأساليب اللاأخلاقية سلب الناس أموالهم حتى يرتبوا زيارات موهومة لأحبائهم المختفين أو لمجرد إعلامهم أنهم ما زالوا على قيد الحياة أو أنهم معتقلون في سجن كذا وكذا… ومن المعروف أن والدة (النقيب) فيصل غانم مدير سجن تدمر في أوائل الثمانينات (من قرية بيت عليان بمحافظة طرطوس) ، ومن خلال الوسطاء الذين أرسلتهم إلى عائلات المعتقلين ليدلوهم عليها، كانت تشترط لترتيب زيارة لأبنائهم وأقاربهم أو لإخبارهم عن أماكن وجودهم أن يدفعوا لها مبالغ طائلة من المال أو أثمن المجوهرات وكانت -حسب رواية إحدى السيدات التي دفعت لها – لا تتقاضى إلا ذهباً من عيار 24 قيراط! وعلاوة على انتشار هذه الأخبار لدى السوريين خارج المعتقلات فقد سجل محمد سليم حماد من داخل معتقل اختفائه القسري في سجن تدمر الصحراوي لمدة 11 عاماً صداها فقال :” غير أن هذه التطورات كلها كانت تخفي وراء وجهها المليح مؤامرة خسيسة … كان المقدم فيصل الغانم رأسها المدبر وعرابها الخبيث . وكان أبو عوض (أحد السجناء الذي استخدم جاسوساً ضد سجناء مهجعه) من جانبنا أداتها القذرة وذيل الثعبان الذي يتحرك لمصلحة الرأس الخبيث بكل خسة ولؤم. ولم تمض مدة من الزمن حتى تبين لنا كيف أن الغانم هذا قد نظم خارج أسوار السجن شبكة من مصاصي الدماء ترأستها أمه نفسها التي كانت تتولى تنظيم زيارات لنخبة من أهالي المعتقلين الموسرين للاجتماع بأبنائهم في سجن تدمر مقابل مبالغ طائلة من المال…” (تدمر : شاهد ومشهود ص 135-136)
أسلوب آخر تكرر كان السبب في اختفاء كثير من المواطنين وعذابهم فلقد روى لنا أحد أقارب تاجر التجزئة (ع.ا.ش) الذي كان أحد عناصر المخابرات العسكرية قد اشترى من متجره أجهزة كهربائية بالتقسيط. ولما طالبه بالتسديد هدده عنصر المخابرات وبعد ثلاثة أيام أغارت دورية من المخابرات العسكرية على المتجر بدعوى وجود بضاعة مهربة ومواد ممنوعة واقتادته إلى مكان غير معروف، وبعد مرور عشرين سنة على اختفائه … لم يعرف أحد من أولاده أو أسرته أي أثر له … وهكذا أسدل الستار على دين مصاصي الدماء…
إن الوضع المتأزم في سورية سيستمر ولو بدت الهيمنة الظاهرة لسلطة البطش والاعتقال والقمع… سيستمر الوضع المتأزم حتى يأمن الناس على أنفسهم في ظل قانون عادل لا يظلم فيه أحد، ولا تتسلط فيه فئة حاكمة أو منتفعة على أقدار الناس.
ومن أجل أن يتحقق ذلك تناشد اللجنة السورية لحقوق الإنسان شعب سورية الصابر على المضي قدماً في الثبات وألا يستخفنه حفنة من المنتفعين ، كما تناشد كل الخيرين في العالم للمساعدة على كشف الوسائل اللاأخلاقية التي ارتكست فيها الأجهزة الأمنية لنظام لا يحفل بحقوق شعبه وكرامته. كما وتخاطب رأس النظام مذكرة إياه بأن الظلم لا يدوم وتاريخ الشعوب يشهد أن الظلم ينقلب على صاحبه بغتة كما ينقلب السحر على فاعله.