إن الدستور السوري الصادر في 31آذار1963 والنافذ حالياً في سورية يتضمن مبادئ متناقضة .ففيه مواد تقرر المساواة بين المواطنين واستقلال القضاء وضمان حرية التعبير والحرية الشخصية واحترام حقوق الإنسان وفيه مبادئ تتناقض مع تلك المبادئ ويمكن من خلالها تعطيل المواد السابقة ، وممارسة التفرقة الطائفية والعنصرية وانتهاك حقوق الإنسان التي أقرتها منظمة الأمم المتحدة وأقرتها دول العالم لعاهدات دولية وقعت عليها سورية نفسها وأصبحت جزءً من التشريع السوري .
لذلك فإننا نقدم التقرير التالي والذي يتضمن دراسة للدستور السوري من منظور حقوق الإنسان .
جاء في مقدمة الدستور السوري :
(الحرية حق مقدس ، والديمقراطية الشعبية هي الصيغة المثالية التي تكفل للمواطن ممارسة حريته والتي منه إنساناً كريماً قادراً على العطاء والبناء ، قادراً على الدفاع عن الوطن الذي يعيش فيه ، قادراً على التضحية في سبيل الأمة التي ينتمي إليها ).
والمادة ( 25) تنص على أن المواطنين متساوون أمام القانون بالحقوق والواجبات وأن الدولة تكفل لهم حريتهم الشخصية وتحافظ على كرامتهم وأمنهم .
والمادة (28) تنص على أن كل متهم بريء حتى يدان بحكم قضائي مبرم وأنه لا يجوز توقيف أحد إلا وفقاً للقانون ولا يجوز تعذيب أحد .
والمادة (35) تعطي المواطن حق التقاضي وسلوك سبل الطعن ، وأن الدفاع أمام القضاء مصون بالقانون .
وجاء في المادة (38) لكل مواطن الحق في أن يعرب عن رأيه بحرية وعلنية بالقول والكتابة وكافة وسائل التعبير الأخرى ، وأن يسهم في الرقابة والنقد البناء بما يضمن سلامة البناء الوطني ، وتكفل الدولة حرية الصحافة والطباعة والنشر وفقاً للقانون .
والمادة (39) تعطي للمواطنين حق الاجتماع والتظاهر .
هذه المواد الدستورية تعطي المواطن السوري حرياته الأساسية فلماذا لم يستعملها المواطن السوري وهو يعيش فاقداً لحريته وكرامته وحقه في الحياة الكريمة ؟
إن القراءة المتأنية للدستور السوري تبين أن هذه المواد قد ألغتها المادة (153) من الدستور نفسه التي تنص على ما يلي : (تبقى التشريعات النافذة والصادرة قبل إعلان هذا الدستور سارية المفعول إلى أن تعدل بما يوافق أحكامه ) ولما كان هذا الدستور صدر في 1 3 كانون الثاني 1973 ورغم مضي أكثر من ربع قرن على صدوره فإن التشريعات النافذة والصادرة قبل إعلان هذا الدستور والمخالفة لأحكامه والتي تعطل عمل المواد المشار إليها أعلاه لم يعجل شيء منها ولا زالت نافذة .
وسوف نتناول بالبحث : التشريعات الصادرة قبل إعلان هذا الدستور والمخالفة لأحكامه والتي عنتها المادة (153) من الدستور . ثم نتعرض لماد الدستور الأخرى التي تلغي كافة الحقوق والحريات السياسية للمواطن السوري .
أولاً: التشريعات المخالفة للدستور والنافذة قبل صدوره .
لقد أُعلن الدستور السوري في 31 كانون الثاني 1973م ولكن التشريعات النافذة قبل صدوره والمخالفة له كثيرة وسوف نكتفي بذكر :
قانون الطوارئ الصادر في 22 كانون أول 1962م
حالة الطوارئ المعلنة بالأمر العسكري رقم (2) تاريخ 8 آذار 1963 م
فقد نصت المادة (3) من هذا القانون :
عند إعلان حالة الطوارئ يُسمى رئيس مجلس الوزراء حاكماً عرفياً وتوضع تحت تصرفه جميع قوى الأمن الداخلي والخارجي .
وجاء في المادة (4) : للحاكم العرفي أو نائبه أن يصدر أوامر كتابية باتخاذ جميع القيود أو التدابير الآتية أو بعضها وأن يحيل مخالفيها إلى المحاكم العسكرية :
(أ) وضع قيود على حرية الأشخاص في الاجتماع والإقامة والتنقل والمرور في أوقات معينة ، وتوقيف المشتبه فيهم ، وتحري الأشخاص والأماكن في أي وقت ، وتكليف أي شخص بتأدية أي عمل من الأعمال .
(ب) مراقبة الرسائل والمخابرات أياً كان نوعها ، ومراقبة الصحف والنشرات والمؤلفات والرسوم والمطبوعات والإذاعات وجميع وسائل التعبير والدعاية والإعلان قبل نشرها ، وضبطها ، ومصادرتها ، وتعطيلها ، وإلغاء امتيازها ، وإغلاق أماكن طبعها .
(ج) تحديد مواعيد فتح الأماكن العامة وإغلاقها .
(د) سحب إجازات الأسلحة ،والذخائر والمواد القابلة للانفجار والمفرقعات على اختلاف أنواعها ، والأمر بتسليمها ، وضبطها ، وإغلاق مخازن الأسلحة .
(هـ) إخلاء بعض المناطق أو عزلها وتنظيم وسائل النقل وحصر المواصلات وتحديدها بين المناطق المختلفة .
(و) الاستيلاء على أي منقول أو عقار وفرض الحراسة المؤقتة على الشركات والمؤسسات وتأجيل الديون والالتزامات المستحقة والتي تستحق على ما يجري الاستيلاء عليه .
(ز) تحديد العقوبة التي تفرض على مخالفة هذه الأوامر .
وقد مضى على حالة الطوارئ هذه أكثر من خمسة وثلاثين عاماً .وإذا اعتبرنا أن الإنسان يبلغ سن الرشد في الرابعة عشرة من عمره فالذين بلغوا سن الرشد من أبناء الشعب السوري وحالة الطوارئ معلنة قد أصبحوا الآن في التاسعة والأربعين من عمرهم وهم لم يتذوقوا طعم الحرية في حياتهم ، وإنما سمعوا عنها من الذين تجاوز عمرهم الخمسين عاماً.
وإن حالة الطوارئ قد أفرزت آثاراً قانونية خطرة على حقوق الإنسان وأهمها :
1- انعدام ممارسة السلطة القضائية لأية صلاحية بصدد الإعتقالات سواء كان لجهة الأمر بالاعتقال و تنفيذه أو مسؤولية التحقيق مع المعتقل ، أو معاقبته ، أو الإفراج عنه وهذا مخالف للفقرة (3) من المادة (9) من المعاهدة الدولية للحقوق المدنية والسياسية .
2- حرمان المواطنين من ممارسة حقهم في الطلب من القضاء البت بشرعية توقيف أي شخص وهذا يخالف الفقرة (4) من المادة (9) من المعاهدة الدولية للحقوق المدنية والسياسية.
3- حجب حق الدفاع عن المعتقل أو توكيل محام للتشاور معه وبالتالي منع المحامين من التوكيل أو الدفاع عن أي معتقل بأمر عرفي بزعم أن توقيفه ليس قضائياً ، وإذا توكل محام عن أي معتقل فلا يسمح له حتى بالمراجعة للاستفسار عن مصير موكله وهذا يخالف الفقرة (ب) من المادة (14) من المعاهدة المشار إليها .
4- عدم جواز الطعن بقرارات الحاكم العرفي القاضية باعتقال أي شخص أو الاعتراض عليها ، أو التظلم منها أمام أي مرجع قضائي وهذا يتعارض مع المادة (14) من المعاهدة المذكورة .
5- منع ذوي المعتقل من معرفة مكان اعتقاله أو التهمة الموجهة إليه وبالتالي عدم إمكان زيارته للتحقيق عما إذا كان حياً أو ميتاً . وقد ترتب على ذلك أن معظم المعتقلين بدون محاكمة في سورية استناد اً إلى حالة الطوارئ يعتبرون بحكم المفقودين لأن مصيرهم مجهول .
وخلاصة القول فإن الحاكم العرفي يملك بحسب قانون الطوارئ النافذ في سوريا وحالة الطوارئ المعلنة أن يفعل بأي مواطن وبأي شخص مقيم على أرض سورية أو مار منها وهو مسافر إلى بلد آخر ما يشاء بمصادرة حقه في الحرية بحجزه إلى آماد غير محدودة وصلت إلى أكثر من ثلاثين عاماً ، وحقه في التملك بمصادرة أمواله المنقولة وغير المنقولة وحقه في إبداء الرأي وفي الاجتماع ، والإقامة والتنقل . وبذلك تكون المواد التي وردت في الدستور السوري والمتعلقة بالحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان غير قابلة للتطبيق بعد إن عطلت أحكامها المادة (153) من الدستور نفسه . وإن ما يطبق في سورية اليوم ومنذ 18 آذار 1963 م في مجال حقوق الإنسان والحريات العامة هو قانون الطوارئ الصادر في 22 كانون أول 1962م .
ثانيا: مواد الدستور السوري التي ألغت الحقوق والحريات السياسية للمواطن السوري :
1- لقد نصت المادة (8) من الدستور السوري على ما يلي :(إن حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب ووضعها في خدمة أهداف الأمة). فالدستور السوري الذي هو القانون الأساسي في البلاد فرض على الشعب السوري حزباً معيناً ، وجعله قائداً في الدولة والمجتمع دون أن يكون للشعب السوري أي إرادة في ذلك أو رأي وهذا الحزب هو الذي استولى على السلطة بانقلاب عسكري . وإن المجلس الذي وضع هذا الدستور هو مجلس عين أعضاؤه تعييناً من قبل حزب البعث دون أن يكون للشعب رأي في تعيينهم ، وكان من المفترض أن ينتخبوا انتخاباً ليكونوا ممثلين عن الشعب . وإن كان قد جرى فيما بعد استفتاء على الدستور نال الموافقة بنسبة 99,9% من أصوات الشعب ، فإن جميع وسائل الإعلام في العالم وجميع مؤسسات حقوق الإنسان قد أثبتت بأن الاستفتاء على الدستور كان استفتاءً صورياً مزوراً ، ولما تحرك الشارع السوري ليعلن احتجاجه على هذا الدستور وعلى هذه الانتخابات المزورة تم قمعه بقسوة متناهية وسمي هذا التحرك يومئذ بالثورة على الدستور وتم اعتقال جماهير غفيرة من الشعب السوري وظلت في المعتقلات سنين عديدة . فأي إرادة للشعب في اختيار ممثليه ، وأي إرادة لهذا الشعب إذا كان حزب البعث مفروضاً عليه كقائد في الدولة والمجتمع !!؟
2-نصت المادة (84) من الدستور السوري على ما يلي : (يصدر الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية من مجلس الشعب بناء على اقتراح القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي ويعرض الترشيح على المواطنين لاستفتائهم عليه ) .فأين هو دور الشعب السوري في انتخاب رئيسه ؟
أ- لا يستطيع أي مواطن مهما كان لديه من المؤهلات والتاريخ الوطني والتضحيات أن يرشح نفسه لرئاسة الجمهورية وقد اغتصبت القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي حق الشعب في الترشيح والانتخابات لهذا المنصب ، وإن مجلس الشعب لا يقدم له من القيادة القطرية مرشحين أو أكثر ليختار واحداً منهم وإنما يقدم له مرشح واحد وبذلك فلا يوجد أمامه خيار سوى أن يرفع يده بالموافقة عليه . ومع ذلك فالدستور يسمي هذه العملية انتخاباً وليس استفتاءً والنتيجة أن النجاح لهذا المرشح الوحيد هو دائماً بالإجماع .
وأما نتيجة الاستفتاء التي تعرض على المواطنين للموافقة على الرئيس الذي انتخبه مجلس الشعب وفقاً للصيغة المذكورة أعلاه فهي دائماً تكون الموافقة على هذا الرئيس بنسبة 99,99% .
ب- وهذا الرئيس الذي يتم انتخابه بهذه الصورة هل هو رمز للامة ووحدتها فقط كرؤساء الجمهوريات البرلمانية أم له سلطات تنفيذية واسعة كسلطات رؤساء الجمهوريات في الحكومات الرئاسية .
وبالرجوع إلى الدستور السوري واستعراض سلطات رئيس الجمهورية السوري نرى ما يلي :
سلطات رئيس الجمهورية بموجب الدستور السوري :
(1) يمارس السلطة التنفيذية نيابة عن الشعب (المادة 93)
(2) يعين نائب الرئيس ويعين رئيس مجلس الوزراء ويعين الوزراء ويعفيهم من منصبهم (المادة 95)
(3) هو القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة (المادة 103)
(4) هو الذي يعلن حالة الحرب وحالة الطوارئ (المادة 100)
(5) يتولى السلطة التشريعية في المدة الفاصلة بين كل دورتين تشريعيتين حيث يكون المجلس غير منعقد (المادة 111) .
ومع هذه الصلاحيات الواسعة التي يتمتع بها الرئيس السوري فإن المادة (91) من الدستور السوري تحلّه من أي مسؤولية عن الأعمال التي يقوم بها في مباشرة مهامه إلا في حالة الخيانة العظمى . وهذا يتجاوز صلاحيات الملوك والأباطرة . فجميع حكام العالم مسؤولون عن الجرائم التي يقترفونها أثناء مباشرة مهامهم من جرائم القتل والتعذيب ونهب الأموال والاختلاس إلا في سورية فإن الدستور يحلّ رئيس الجمهورية من أي مسؤولية وحتى لا يكون هناك اجتهاد في تفسير النص فإن الدستور السوري حصر مساءلة رئيس الجمهورية بالخيانة العظمى فقط .