مثّلت محكمة أمن الدولة العليا أحد أبرز معالم نظام القمع الذي بناه حزب البعث بعد استيلائه على السلطة في انقلاب عام 1963، وعبّرت عن استخفافه بفكرة القانون بحدّ ذاته. ومنذ إنشائها، وحتى حلّها قبل خمس سنوات في 21/4/2011 قامت المحكمة بمحاكمة آلاف من الأشخاص، بعيداً عن كل القواعد الدنيا للمحاكمات العادلة.
استُحدِثت محكمة أمن الدولة العليا بالمرسوم التشريعي رقم 47 بتاريخ 28/3/1968، والذي ألغى المحاكم العسكرية الاستثنائية التي استحدثها المرسوم التشريعي رقم 6 لعام 1965، وبقيت قائمة حتى صدور المرسوم التشريعي رقم 53 يوم 21/4/2011، ضمن مجموعة من التشريعات التي صدرت آنذاك في محاولة لاستيعاب مطالب الإصلاح بعد انطلاق الاحتجاجات الشعبية في منتصف آذار/مارس 2011.
وخلال عملها، حوكم أمام هذه المحكمة الدفعة الأولى من معتقلي الإخوان المسلمين في عام 1979 وحكموا جميعاً بالإعدام، ومعتقلوهم بعد أواسط التسعينيات (ومعظمهم من القادمين من المنفى)، ومعتقلو المنظمة الشيوعية العربية والحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي، وحزب العمل الشيوعي والنشطاء الأكراد ونشطاء المجتمع المدني والتنظيمات الفلسطينية وآخرون والتنظيمات الإسلامية (السلفيين، حزب التحرير).
ويذكر أن بقية معتقلي الإخوان منذ عام 1980 وما تلاها حوكموا أمام محاكم ميدانية في داخل السجون.
توقّف عملُ المحكمة تقريباً في الفترة ما بين 1980-1992، دون معرفة الأسباب الكامنة وراء هذا التوقف، أو سبب عودة نشاطها بعد ذلك. وكانت قضية لجان الدفاع عن الحريات الديموقراطية وحقوق الإنسان في سوريا من أوائل القضايا التي نظرت فيها المحكمة بعد عودة نشاطها، وأصدرت المحكمة في آذار/مارس 1992 أحكاماً بالسجن ما بين 5-10 سنوات على عشرة من أعضاء اللجان، بتهمة العضوية في منظمة غير قانونية وتوزيع منشورات دون إذن.
وفي الفترة ما بين 2006-2008 نشطت المحكمة بشكل كبير في قضايا من أصبحوا يُعرفون باسم “العائدين من العراق”، حيث تم الحكم بالسجن على مئات منهم، وأرسلوا جميعاً إلى سجن صيدنايا الذي شهد مقتل العشرات منهم لاحقاً في المجزرة التي شهدها السجن ابتداء من 5/7/2008.
ولا يمكن الحصول على قائمة بكل القضايا التي تعاملت معها المحكمة منذ إنشائها، فقد كان عملها قبل عام 2002 سرياً، ولا يُتاح لأي جهة خارجية حضور المحاكمات، وبالتالي فقد اقتصرت المعلومات عن تلك المرحلة على مصدرين: شهادات السجناء المفرج عنهم لاحقاً، والذين عُرضوا أمام المحكمة أم نقلوا شهادات لزملاء لهم عُرضوا أمامها. أما في مرحلة ما بعد 2002 فقد أصبحت معظم جلسات المحكمة علنية، وأصبح بإمكان المحامين الترافع ولو شكلاً أمام المحكمة، وتمكّنت المنظمات الحقوقية السورية والدولية من توثيق أسماء المتهمين وقضاياهم والأحكام التي صدرت بحقّهم.
وقد تولّت اللجنة السورية لحقوق الإنسان آنذاك توثيق القضايا التي كانت تُعرض أمام المحكمة، والانتهاكات التي كانت تقوم بها بحق المعتقلين.
أنظر: ملف بمتابعات اللجنة السورية لمحكمة أمن الدولة 2003-2011
لكن العلنية التي تلت عام 2002 لم تشمل علنية الجلسات نفسها، وإنما اقتصرت في أغلب الأحيان على علنية النظر في القضايا، فأغلب القضايا كانت تُنظر في غرفة رئيس المحكمة وليس في قوس المحكمة، ولم يكن بإمكان المحامي حضور الجلسات الأخرى التي لا يحمل توكيلاً فيها.
وشكّل السماح لدبلوماسيين من الاتحاد الأوروبي بحضور بعض الجلسات بعد عام 2004 استثناء فيما يتعلق بعلنية الجلسات نفسها.
وقد قال أحد الدبلوماسيين الغربيين الذين حضروا بعض جلسات المحكمة: “لا يمكن تحسين أحوال هذه المحكمة التي يُعدّ وجودها في حدّ ذاته معاكساً لحقوق الإنسان، إلا بحلّها بالكامل”(2).
آلية عمل المحكمة
تنظر المحكمة في المعتقلين الموجودين لدى فروع الأمن المختلفة، ويتم تحويل المعتقلين إلى المحكمة من الفرع المعني عبر أمر عسكري يوقّعه وزير الداخلية.
ولا تتوفر في المحكمة درجات للحكم، ولا تخضع قوانينها للاستئناف، وتُعتبر أحكامها قطعية نافذة فور تصديق رئيس الجمهورية عليها. حيث نصت المادة 7 في فقرتها ب من المرسوم 47 لعام 1968 على أن “للنيابة العامة عند التحقيق جميع الصلاحيات المخولة لها ولقاضي التحقيق ولقاضي الإحالة بمقتضى القوانين النافذة. كما أن هذه القرارات مبرمة ولا تقبل أي طريق من طرق الطعن”. أي أن “النيابة العرفية هي خصم وحكم في الوقت نفسه، فهي التي تحرك الادعاء، وهي التي تصدر قرار الاتهام و تتمتع بسلطة قاضي الإحالة” (1).
ووفقاً لتقرير أعدّته منظمة هيومن رايتس ووتش في عام 2007 عن المحكمة، ونقلت فيه شهادات لدبلوماسيين غربيين حضروا جلساتها، فإنّ المحكمة لم تتصف حتى شكلياً بما يميز المحاكم الحقيقية، فهي عبارة عن غرفة في شقة تقع في شارع 29 أيار بدمشق، وعادة ما يعرض القاضي القضية بشكل موجز، ويطرح عدة أسئلة قليلة على المدعى عليه، ثم تنتهي الجلسة. ولا يتحدّث المحامون، ولا تُعرض أي أدلة مادية، والجلسة برمتها لا تزيد عن 30 دقيقة لكل مجموعة من المدعى عليهم! وفي كثير من الأحيان كان رئيس المحكمة فايز النوري يقوم بعقد الجلسات في مكتبه في الطابق الثالث من العمارة بدلاً من قاعة المحكمة!.
وفي شهادة لمحام كان يحضر جلسات المحكمة بانتظام، ورد إن “من النادر أن يَستدعي الادعاء أي شهود، وحيث يفعل هذا فإن الشاهد إما أن يكون مسؤولاً أمنياً أو مخبراً، ومن الأندر أن تقبل المحكمة شهادة شهود الدفاع، وحتى حين يمثل الشهود فإنّهم من النادر أن يُضيفوا شيئاً، وفي حالات تم استدعاء الشهود لتعزيز شهادة المدعى عليه، تجاهلت المحكمة شهادتهم تماماً”.
ورغم أن الدستور الدائم الذي تم اعتماده في عام 1973 ألغى كل الإجراءات الاستثنائية السابقة له، إلا أن المادة 153 شرّعت لبقاء المحكمة، حيث نصّت على أن “التشريعات النافذة والصادرة قبل إعلان هذا الدستور تبقى سارية المفعول إلى أن تُعدّل بما يوافق أحكامه”.
رئاسة المحكمة
نصت المادة 2 من المرسوم رقم 47 لعام 1968 على أن المحكمة تتشكّل “بقرار من رئيس الجمهورية، من رئيس وأعضاء يُحدٍّد عددهم وصفتهم المدنية أو العسكرية قرارُ تشكيلها”.
احتفظ فايز النوري بمنصب رئيس المحكمة منذ أواخر السبعينات، وهو معلم ابتدائي ينحدر من مدينة دير الزور الواقعة في شمال شرق سورية. درس الحقوق في فترة لاحقة من حياته منتسباً، ولم يمارس المحاماة أو القضاء قبل تعيينه في هذا المنصب.
ورغم إحالة النوري إلى التقاعد بتاريخ 13/8/2000، إلا أنه ظل يترأس المحكمة حتى حلّها بتاريخ 21/4/2011.
وقد ارتبط اسم النوري بعدد كبير من الانتهاكات، وخاصة في نهاية السبعينيات، والتي قامت فيها المحكمة بإصدار أحكام على مئات المتهمين بالانتماء إلى الإخوان المسلمين، وقامت بالحكم على معظمهم بالإعدام، في محاكمات استمر بعضها لدقائق معدودة فقط.
قضايا الإرهاب تخلُف أمنَ الدولة
جاء إلغاء محكمة أمن الدولة ضمن مساعي الحكومة السورية في بداية عام 2011 لإجراء إصلاحات في ملفات الانتهاكات التي تقوم بارتكابها، فجاء إلغاء المحكمة في نفس اليوم الذي رُفعت فيه حالة الطوارئ، وسبقه تسوية وضع المتضررين من إحصاء الحسكة لعام 1962، وتعديل الدستور لاحقاً.
لكن تشكيل محكمة قضايا الإرهاب بالقانون رقم 22 لعام 2012 أكّد أن خطوة إلغاء محكمة أمن الدولة كانت شكلية لا أكثر، حيث جاءت محكمة قضايا الإرهاب لتكون أسوأ من سابقتها، فهي لا تسمح للمحامين حتى بالاطلاع على أضابير القضية أو الحصول على نسخة منها، ولا تسمح للمحامين بلقاء الموكل، كما أن اختصاصاتها تعدّت تلك التي كانت ممنوحة لمحكمة أمن الدولة، معتمدة على التعريف الفضفاض للإرهاب، والذي يشمل بنظر المحكمة كل فعل معارض للنظام.