في عام 1948 شاركت سورية في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ليكون صكّاً إنسانياً جامعاً لكل القيم التي تحترم ذات الإنسان، وتمكّنه من العيش الكريم، وتُساعده على تقديم أفضل ما لديه لتنمية المجتمع الذي يعيش فيه.
وشكّل الإعلان منذ اعتماده قبل 67 عاماً في مثل هذا اليوم ركيزةً أساسيةً قامت عليها كل الاتفاقات التي تمّ التوصّل إليها في مجال حقوق الإنسان، وأسس لإنشاء آلاف من الأجسام الدولية والإقليمية والمحلية لصيانة هذه الحقوق وتطبيقها، ليكون الإعلان بذلك انطلاقة مفترضة لعهد إنساني جديد يتشارك في قيم عالمية مشتركة للمرة الأولى في التاريخ الإنساني.
لكن تطبيق الحقوق التي نصّ عليها الإعلان وكرّستها المواثيق الدولية اللاحقة اصطدم بشكل مستمر بالمصالح السياسية، وهو ما حدّ بشكل متواصل من قدرة المنظومة القانونية لحقوق الإنسان على تطبيق المعايير التي تتضمنها بشكل عادل وفعّال.
وقد مثّلت الانتهاكات والجرائم التي تشهدها سورية منذ عام 2011 وحتى اليوم نموذجاً مثالياً لمعضلة هذه المنظومة من جهة، ولفشل المجتمع الدولي ومؤسساته في وضع حقوق الإنسان في مرتبة متقدّمة في سلم القيم العالمية، ناهيك عن تمتعها بمبدأ السمو على ما عداها من القيم أصلاً!.
وتعود خصوصية الحالة السورية إلى أنها النموذج الأبرز للانتهاكات في عصر الإعلام الجديد، فرغم أن العديد من دول العالم شهدت من قبل انتهاكات تفوق في حجمها وفظاعتها ما شهدته سورية خلال الأعوام الخمسة المنصرمة، إلا أن أياً منها لم يشهد حجم التوثيق اليومي والتفصيلي لما يجري من انتهاكات كما شهدته سورية، حيث يعمل عشرات الآلاف من النشطاء داخل وخارج سورية بشكل يومي وغير مسبوق في أي دولة من دول العالم على توثيق الانتهاكات بالصوت والصورة والمعلومة المكتوبة، ويعملون على نقل الحدث إلى وسائل الإعلام حول العالم.
كما أن النموذج السوري يمتلك خصوصية التمركُز في دائرة الاهتمام العالمي، على عكس كثير من القضايا التي لم تتمكن لاعتبارات عديدة من الحصول على مثل هذا الاهتمام، وهو ما انعكس في تحوّل الشأن السوري إلى واحد من أهم القضايا في كل الملتقيات الدولية خلال هذه الفترة، وفي مئات من القرارات ذات الصلة من مؤسسات الأمم المتحدة المختلفة.
لكن هذا الاهتمام وتسليط الضوء لم ينعكس في موقف حقيقي لمواجهة الانتهاكات وجرائم الحرب التي أصبحت حدثاً يومياً، إذ فشِلَ مجلسُ الأمن في (13) قراراً متعلقاً بسورية، و(10) بيانات رئاسية، و(49) تقريراً في إدانة انتهاكات النظام السوري بشكل صريح، رغم أن المؤسسة الدولية تمكّنت من توثيق هذه الانتهاكات بشكل واضح في الكثير من الوثائق المذكورة سالفاً، بالإضافة إلى تقارير مجلس حقوق الإنسان ولجنة التحقيق الدولية الخاصة بسورية، والتي بلغ عددها (19) تقريراً.
إن تحليل عمل المنظومة الدولية فيما يتعلق بالانتهاكات التي جرت في سورية يُشير إلى حالة التناقض الكبيرة بين المصالح السياسية للدول وبين القيم التي توافقت عليها هذه الدول عند توقيعها لمواثيق حقوق الإنسان، فقد عملت المنظومة الدولية بشكل حثيث على توثيق معظم الانتهاكات التي شهدتها سورية، وأظهرت تقاريرها مسؤولية النظام السوري تحديداً عن الغالبية العظمى من الضحايا والأضرار التي عرفتها سورية، كما أظهرت تعاونه أو تغاضيه على الأقل عن تنظيم داعش، وقيامه بشكل ممنهج باستهداف الأطراف التي تحارب داعش دون استهداف أهداف التنظيم.. إلى غير ذلك من المعطيات، إلا أن ذلك لم يُساعد في الحصول على قرار واحد من مجلس الأمن يُدين النظام السوري بشكل واضح، مثلما حصل مع تنظيم داعش.
كما تُظهر عملية التحليل أن عملية التوثيق التي تقوم بها المنظومة الدولية، والتي لا تدع مجالاً للشك بأن النظام السوري مسؤول عن ارتكاب سلسلة غير منتهية من أعمال الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، لا تفضي سياسياً إلى دعوات إلى محاكمة الفاعلين فيه، أو دعوات لعزلهم على الأقل، وإنما على العكس من ذلك، فقد كرّست المنظومة الدولية كامل جهودها وقراراتها إلى التعامل مع مرتكبي الجرائم باعتبارهم طرفاً أساسياً في العملية السياسية، وأن على مختلف الأطراف التوصل إلى حل سياسي معهم.
لقد مثّلت قرارات مجلس الأمن المختلفة، وتصريحات المبعوثين الدوليين الخاصين بسورية انتكاسة حقيقية لمنظومة حقوق الإنسان، ومنحت مساحةً أكبر للتنظيمات الإرهابية والمتطرفة، مثل تنظيم داعش، لنشر أفكاره بين فئات أكبر من المجتمع السوري والمجتمعات الأخرى، نظراً لإصرار المجتمع الدولي على تغييب أي منصة يمكن أن تُوفّر العدالة للضحايا، أو تمنح الأمل لهم بمستقبل أفضل يُعوّضون فيه عن حقوقهم المنتهكة، ولا يتمكّن المجرمون فيه من الهروب من العدالة.
اللجنة السورية لحقوق الإنسان
10/12/2015