شهدت الأشهر الأخيرة ارتفاعاً حاداً في أزمة اللجوء الدولية في أوروبا، إذ زادت أعداد اللاجئين والمهاجرين الذين يحاولون العبور إلى الأراضي الأوروبية، سواء من خلال الحدود البرية في شرق وجنوب شرق أوروبا، أو من خلال البحر أو الجو، بالإضافة إلى ارتفاع أعداد اللاجئين الذين يحاولون الوصول إلى دول معينة داخل أوروبا، من تلك التي توفّر فرصاً أفضل للاجئين.
وتُشكّل كل من اليونان وبلغاريا المصدر الأساسي لأزمة اللجوء في داخل أوروبا، حيث يقصد اللاجئون والمهاجرون هاتين الدولتين قادمين من تركيا، لكن اللاجئين يستخدمون الأراضي اليونانية والبلغارية كمعابر للوصول إلى الدول الغنية في الاتحاد الأوروبي.
وشهدت الأيام الأخيرة مصادمات على الحدود المقدونية اليونانية، حيث حاول آلاف من اللاجئين، معظمهم من السوريين، عبور الحدود البرية بين اليونان ومقدونيا يوم 21/8/2015، وقامت الشرطة المقدونية باستخدام الغاز المسيل للدموع من أجل دفعهم خارج الأراضي المقدونية، وفي يوم 22/8/2015 قام آلاف من اللاجئين باقتحام السياج الشائك بين البلدين وعبروا إلى مقدونيا.
وتشكّل هذه المصادمات انتقالاً للأزمة إلى مرحلة أخرى، حيث كانت الشرطة الحدودية في الدول المستقبلة للجوء تقوم عادة بالتعامل مع حالات شبه فردية، أو مع حالات تتعلق بالمئات عندما يرتبط الأمر بالقادمين عبر القوارب، لكن قد تكون هذه هي المرة الأولى التي يقوم فيها آلاف من اللاجئين بشكل جماعي بمحاولة اقتحام حدود برية لدولة أوروبية.
حجم الأزمة الأوروبية
تشير أرقام الاتحاد الأوروبي الرسمية إلى أن عدد المهاجرين واللاجئين الذين وصلوا إلى أوروبا هذا العام تفوق بما يُعادل الضعف نظيراتها في عام 2014. فبحسب الأرقام الرسمية فإنّ 50 ألف شخص، معظمهم من السوريين، وصلوا إلى جزر اليونان في شهر تموز/يوليو الماضي وحده.
وحتى منتصف شهر آب/أغسطس الجاري، وصل إلى اليونان 149,028 شخص خلال عام 2015 (حتى يوم 20/8/2015)، فيما وصل إيطاليا 103,864 شخص.
وقد استلمت ألمانيا إلى حد الآن العدد الأكبر من طلبات اللجوء، ومن المتوقع أن يصل عدد هذه الطلبات في نهاية عام 2015 إلى 800 ألف شخص حسب التقديرات الألمانية الرسمية.
سياسة تصدير الأزمة
تشير قراءة حركة اللاجئين ومعطاياتها إلى أن كثيراً من الدول تُمارس سياسة تصدير الأزمة، حيث تعمل على تسهيل انتقال اللاجئين إلى أوروبا، بينما تقوم بعض الدول الأوروبية، وخاصة دول المعبر، بمحاولة تصدير الأزمة إلى الدول الأوروبية الغنية، وتحاول الدول الغنية نفسها تصدير الأزمة فيما بينها.
فمعظم الدول العربية المستضيفة للاجئين السوريين (وهم يحملون في هذه الدول إما صفة مقيمين أو صفة ضيوف) تقوم بالتضييق على هؤلاء في حياتهم اليومية، من خلال التشدد في طلب الوثائق الثبوتية التي لا يمتلكها السوريين، بالإضافة إلى الاستدعاءات الأمنية، في الوقت الذي تتسامح مع فرق المهربين التي تقوم بنشر هواتف محلية يسهل تتبعها على صفحات التواصل الاجتماعي.
كما تعمل السلطات التركية بنفس السياسة، من خلال تخفيف قيودها الأمنية على الحدود مع بلغاريا، والمنطقة البحرية المواجهة للأراضي اليونانية، مع غض الطرف بشكل واضح عن عمل عصابات التهريب، والتي تمتلك مكاتب في المدن التركية، وتطلب من اللاجئين دفع الأموال إلى هذه المكاتب!.
وتقوم الأجهزة الحكومية في اليونان وإيطاليا وبلغاريا باستخدام العنف والتعذيب مع اللاجئين، ثمّ تقوم بإطلاق سراحهم في داخل أراضيها، وأحياناً بعد نقلهم إلى مناطق حدودية، في محاولة منها لدفعهم للهجرة إلى دول أوروبية أخرى.
وتمثل مشكلة اللاجئين العالقين في ميناء كاليه في فرنسا، والذين يُحاولون العبور إلى بريطانيا، وسط امتناع من السلطات الفرنسية عن اتخاذ إجراءات بحقّهم، ممارسة فرنسية لتصدير أزمة اللجوء على أرضها إلى بريطانيا.
وتُظهر سياسات الدول المصدّرة للاجئين قيامها بأفعال متعمّدة لدفع السكان المدنيين إلى الهجرة إلى خارجها، من أجل تصدير الأزمات الداخلية إلى دول الجوار، ومن ثمّ إلى دول العالم، وتعقيد الحلول السياسية الممكنة. فقد عمد النظام السوري إلى دفع السوريين إلى الهجرة خارج البلاد بشكل متصاعد، حتى تحوّل السوريون إلى المرتبة الأولى في عدد طالبي اللجوء، والمرتبة الأولى في عدد اللاجئين في العالم.
وتمثّلت سياسات النظام السوري في دفع السوريين للهجرة في ارتكاب المجازر الممنهجة، مع فتح معابر وممرات يمكن من خلالها للسكان الانتقال إلى دول الجوار، والتضييق على السوريين في مجال الوثائق الثبوتية، إلى غيرها من السياسات التي حوّلت الأزمة الداخلية السورية إلى أزمة لدول المنطقة، قبل أن تتحوّل لاحقاً إلى أزمة عالمية.
الوفيات في البحر
شهد عام 2015 ارتفاعاً حاداً في عدد الوفيات بين صفوف المهاجرين الذين يحاولون عبور البحر للوصول إلى أوروبا، كان معظمهم يحاول الوصول إلى السواحل الإيطالية، مقارنة مع عدد أقل من الوفيات في أولئك الذين يُحاولون الوصول إلى اليونان. وبحسب أرقام المنظمة الدولية للهجرة، فقد قتل 1930 شخصاً أثناء محاولتهم عبور البحر المتوسط للوصول إلى إيطاليا في عام 2015، بينما قُتل 70 شخصاً أثناء محاولتهم العبور بحراً إلى اليونان في الفترة نفسها.
وبحسب أرقام المنظمة (حتى يوم 20/8/2015)، فإنّ شهر نيسان/أبريل شهد أعلى عدد من الوفيات في 2015، حيث بلغ عدد الوفيات 1265 شخصاً.
وتزيد الوفيات في 2015 إلى الآن عن نظيراتها في عام 2014 بثلاثين ضعفاً!.
من أين يأتي اللاجئون؟
يُمثّل السوريون العدد الأكبر من اللاجئين الذين يصلون إلى اليونان، نظراً لأنّ كثيراً منهم يُقيم في تركيا أصلاً، أو يسهل عليه الوصول إليها، حيث كان 60% من اللاجئين الذين وصلوا اليونان هذا العام هم من السوريين، فيما تنخفض نسبة السوريين بشكل كبير بالنسبة للقادمين من شمال أفريقيا إلى إيطاليا، فقد مثّل السوريون 9.7% من اللاجئين الذين قدِموا إلى إيطاليا هذا العام.
أسباب الأزمة الأوروبية
تتركّز أزمة اللجوء الدولية في أوروبا على وجه الخصوص، دون بقية المناطق الغنية والآمنة في العالم، نظراً للعامل الجغرافي، حيث يصعب على المهاجرين القادمين من الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا الوصول إلى الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وغيرها من الدول المنفصلة برياً عن المناطق المصدّرة للاجئين.
لكن وصول اللاجئين بمختلف أصولهم إلى أوروبا تسبب في أزمة داخل أوروبا نفسها، حيث يحاول اللاجئون العبور من الدول غير الأعضاء في اتفاقية الشنغن إلى الدول الأعضاء، كما يحاولون الانتقال إلى الدول الغنية داخل اتفاقية الشنغن نفسها دون أن يُسجلوا بصماتهم في الدول الأوروبية الفقيرة.
وتُعاني الدول الغنية من أزمة في داخلها، نظراً لتوجّه اللاجئين نحو مدن بعينها، بسبب اختلاف القوانين في بعض الدول بين مدينة وأخرى، كما في ألمانيا على سبيل المثال.
وفي الإحصائيات التي أعلن عنها الاتحاد الأوروبي في النصف الأول من هذا العام فإن ألمانيا استقبلت أكبر عدد من طالبي اللجوء، حيث وصل عدد الطلبات فيها إلى 171 ألف طلب، مقارنة مع آيسلندا أو كرواتيا التي لم تتجاوز فيها الطلبات 80 طلباً.
ماذا يمكن أن تفعل أوروبا للاجئين؟
تتحمّل الدول الأوروبية التزامات تجاه اللاجئين، بصفتها عضواً فاعلاً وثرياً في المجتمع الدولي، كما تتحمل مسؤولية إضافية باعتبار أن اللاجئين قد وصلوا إلى أراضيها، وبالتالي فهي ملزمة بحكم المواثيق الدولية، وبحكم الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان بحمايتهم وبمعالجة الانتهاكات التي يُعانون منها، وهي مسؤولية إلزامية، بخلاف التزاماتها الإنسانية تجاه اللاجئين المتواجدين خارج أرضها.
ورغم قيام بعض دول الاتحاد الاوروبي باستقبال عدد من اللاجئين إلى الآن، فإنّ هذه الدول ما زال بإمكانها القيام بالمزيد لحماية اللاجئين، ومن ذلك:
- الضغط في المؤسسات الدولية من أجل وقف الانتهاكات التي تسبب في تدفق اللاجئين، وأبرزها الانتهاكات التي تجري في سورية، والعمل على وقف تعاملها مع الأنظمة التي لا تحترم حقوق الإنسان، والتي تتسبب في دفع مواطنيها إلى الهجرة بحثاً عن الأمان وعن فرص الحياة الكريمة.
- ضرورة العمل على تأمين بديل قانوني للسوريين من أجل استصدار وثائق ثبوتية لهم، وتجديد وثائقهم الموجودة أصلاً، حيث يقوم النظام السوري باستخدام هذه الوثائق للضغط على السوريين وابتزازهم، ودفعهم للهجرة واللجوء إلى الدول الأوروبية.
- ضرورة عمل المجتمع الدولي على تأمين مناطق آمنة في داخل سورية، حيث يمكن لهذه المناطق أن توفّر ملجأ آمناً للسوريين الباحثين عن الحماية.
- الضغط على الدول المستضيفة للسوريين في المنطقة العربية من أجل زيادة المرونة في التعامل مع اللاجئين السوريين هناك، وخاصة فيما يتعلق بوثائق السفر منتهية الصلاحية.
- الضغط على الدول التي تشهد تدفقاً للاجئين عبر حدودها البرية أو سواحلها البحرية من أجل معاملة اللاجئين بشكل كريم، ووقف التعذيب والممارسات الحاطة بالكرامة، والتي تُمارسها بشكل خاص السلطات اليونانية والبلغارية والإيطالية بحق اللاجئين، ويشمل ذلك إجبارهم بالقوة على مغادرة أراضي هذه الدول باستخدام الضرب المبرح الذي يصل إلى تكسير الأطراف، واستخدام الرصاص الحي والمطاطي، واستخدام الكلاب البوليسية. كما يشمل سرقة أمتعة اللاجئين وأموالهم.
- العمل على تأسيس آلية رقابة أوروبية على أداء الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بأزمة اللجوء، ويمكن أن تقوم هذه الآلية بقياس التزام الدول بمعايير حقوق الإنسان في التعامل مع اللاجئين، ورصد الانتهاكات التي يتعرّضون لها في داخل هذه الدول.
- ترسيخ العمل بقواعد حقوق الإنسان في التعامل مع اللاجئين، ويشمل ذلك المساواة بينهم بغض النظر عن دينهم أو لونهم أو عرقهم. وقد شهد شهر آب/أغسطس الجاري موقفين غير مسبوقين من دولتين أوروبيتين هما: سلوفاكيا وبولندا، واللتان رفضتا استقبال أي لاجئين سوريين مسلمين، وهو ما يرسّخ سابقة تمييزية لا تنسجم مع المعايير الدولية ولا الأوروبية لحقوق الإنسان.
- العمل على توحيد القوانين المتعلقة باللجوء في داخل هذه الدول، من أجل وقف الأزمات التي تُعاني منها دول بعينها، مقابل دول أخرى لا تقوم بالتزاماتها تجاه اللاجئين.
- العمل على ملاحقة عصابات التهريب التي تستغل حاجة المهاجرين، وتقوم باستغلالهم، وتعرّض حياتهم للخطر. ورغم أن هذه العصابات تنشط في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشكل خاص، وتعمل بشكل شبه علني، حيث تنشر إعلاناتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أنّ لديها ممثلين في داخل الدول الأوروبية، يقومون بتسهيل عملهم.
- ينبغي دراسة ملفات طالبي اللجوء بعناية، من أجل تمييز الأشخاص الذين يستحقون الحماية نتيجة لنشاطهم في العمل العام، عن أولئك القادمين لأسباب اقتصادية أو أسباب أخرى.