سجّل التقرير السنوي الحادي عشر للجنة السورية لحقوق الإنسان تصاعداً غير مسبوق في وتيرة العنف والقمع من جانب النظام السوري، مشبهاً ما يجري الآن في سورية بالمرحلة التي شهدتها البلاد مطلع الثمانينات من القرن الماضي، والتي انتهت بمجزرة حماة الشهيرة عام 1982.
ووصف التقرير الذي يغطي الفترة من كانون الثاني/يناير 2011 إلى كانون الأول/ديسمبر 2012؛ معظم الانتهاكات التي تمّت خلال هذه الفترة بأنها “انتهاكات مركّبة”، فمثلاً “يتم حصار مدينة معينة، ويتم قصفها بشكل مستمر، مع قطع كل الإمدادات عنها، مما يتسبّب بقتل الأفراد داخل بيوتهم، ووفاة الجرحى لعدم توفر العلاج، والأطفال لعدم توفر الحليب، بينما يقوم ما اصطلح على أنهم شبيحة بارتكاب مجزرة على أطراف الحي، تتضمن أعمال قتل واغتصاب وتهجير.. إلخ”.
وفي حين أشار التقرير إلى وجود كم هائل من التسجيلات المصورة والمعلومات الموثقة عن حجم الانتهاكات التي تجري بصورة يومية، “إلاّ أن تعاطي المجتمع الدولي مع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتُكبت وتُرتَكب حتى لحظة إعداد التقرير كانت مخيبة للآمال، وساهمت في تشجيع النظام السوري على ارتكاب المزيد منها، بل وتصويرها من قبل جنوده، والتباهي بها والتشجيع عليها من قبل المتحدّثين باسمه”. ولذلك حذّر التقرير من أن “الموقف الخجول للمجتمع الدولي (أدى) إلى فقدان السوريين العاديين ثقتهم بمنظومة العدالة الدولية، وتراجعت أهمية القانون الدولي لحقوق الإنسان بصورة كبيرة (..) وهو الأمر الذي شجّع على زيادة شعبية التيارات الراديكالية بصورة متزايدة”.
استهداف المدنيين: المجازر والحصار
تؤكد الاحداث التي تشهدها سورية منذ انطلاق الثورة “أن استهداف المدنيين بصورة مباشرة، والقصف العشوائي للمدن، يتمّ عبر سياسة ممنهجة ومتعمّدة، تهدف إلى إيقاع أكبر عدد من الضحايا في صفوف المدنيين”. فقد استخدمت القوات الحكومية في مواجهة المتظاهرين كافة أنواع الأسلحة منذ اليوم الأول. وقد قُتل برصاص القناصة نحو 5000 مدني. واعتمد النظام سياسية الإعدامات الميدانية للمعتقلين. وأكد منشقون عن الجيش وأجهزة الأمن السورية أن الأوامر كانت بوقف المظاهرات السلمية “بأي طريقة”، كما أن القوات المكلفة بوقف التظاهرات تم تزويدها بالأسلحة المميتة فقط. واستخدمت هذه القوات أيضاً أسلحة محرّمة دولياً، مثل القنابل العنقودية والقنابل الحارقة والألغام الأرضية المضادة للأفراد.
واستخدمت الأسلحة الثقيلة على نطاق واسع لقصف المناطق المدنية، فقد سُجل استخدام المدرعات والدبابات مبكراً، فيما بدأ القصف بالطيران بداية عام 2012، ليستخدم بعد ذلك بشكل مكثف ودائم. وفي شباط/فبراير 2012 سُجّل استخدام صاروخ سكود ضد المدنيين في حي بابا عمرو في حمص، وثم دأب النظام على استخدام هذه الصواريخ على المناطق الشمالية، وخاصة حلب وإدلب.
وسعت الحكومة السورية إلى عقاب المدن الثائرة ضد النظام من خلال تطبيق آليات العقاب الجماعي عليها، من أجل إجبار النشطاء المعارضين للنظام على الخروج منها أو الاستسلام. وشملت سياسة العقاب الجماعي الحصار الكامل للمدن، من خلال منع وصول كافة الإمدادات الغذائية والصحية إلى المدينة المحاصرة، ومنع الدخول والخروج منها، بما في ذلك المرضى والحوامل وكبار السن. كما شملت سياسة العقاب الجماعي قطع الخدمات الرئيسية، مثل الكهرباء والماء والهاتف.
كما شهدت سورية خلال العامين عدداً كبيراً من المجازر التي استهدفت مدنيين في المدن والقرى، لكن أعنفها وقع في حمص وريفها، إضافة إلى ريف دمشق ودير الزور وريف إدلب. وتُشير النماذج التي يستعرضها التقرير إلى تنوّع أساليب القتل المستخدم، حيث “تمّ القيام ببعضها عن طريق القصف العشوائي أو القصف المحدّد، أو بإطلاق النار المباشر من مسافة قريبة، أو حتى باستخدام الأسلحة البيضاء، مما يدلّل على وجود منهج متعمّد ومخطط له لقتل المدنيين على نطاق واسع”.
استهداف الأطفال
يذكّر التقرير بانطلاقة الثورة السورية “إثر اعتقال عدد من الأطفال في مدينة درعا، بتاريخ 26/2/2011، بعد كتابتهم شعارات تطالب بإسقاط النظام”. ويوثق التقرير مقتل 5945 طفلاً خلال عامي 2011 و2012، إما خلال القصف العشوائي للمدن، أو بسبب الحصار ومنع وصول الدواء والغذاء، أو بسبب التعذيب والقتل المباشر والمجازر الجماعية. وقد أشار معتقلون مفرج عنهم إلى أن أطفالاً كانوا معهم في نفس الزنازين والمهاجع، وأنّهم كانوا يتعرّضون للتعذيب القاسي، وأن بعضهم قد توفّي تحت التعذيب.
وتعرض الأطفال والنساء للتهديد من أجل ابتزاز النشطاء والضغط عليهم لتسليم أنفسهم، أو من أجل دفعهم للإدلاء باعترافات إذا كانوا رهن الاحتجاز. واستخدمت قوات الحكومة الأطفال والنساء كدروع بشرية عند التقدم أو الانسحاب من بعض المناطق.
وقامت القوات الحكومية باستهداف المدارس ورياض الأطفال بالقصف، كما استَخدمت المدارس كمراكز اعتقال، أو كثكنات عسكرية ومراكز للقناصة.
“وقد أشارت عدّة تقارير دولية إلى استخدام قوات المعارضة للأطفال في العمليات المسلحة (..) وأظهرت عدة فيديوهات (..) أطفالاً يقومون بحمل السلاح أو يرتدون الزي العسكري، لكن الجهات المعارضة أشارت إلى أن حمل السلاح يكون لغايات الاستعراض والأعمال الفنية، ولم يُشارك أي طفل في العمل المسلح، ولم يتوفر أي فيديو يظهر أطفالاً يُشاركون مباشرة في العمل العسكري”.
سياسة الاختفاء القسري والتعذيب
يُقدّر عدد المعتقلين حتى نهاية عام 2012 بـ170 ألف شخص، قضى منهم قرابة 65 ألفاً فترات متفاوتة. “وقد ازدادت ظروف الاعتقال سوءاً عن نظيراتها في الأعوام السابقة، نتيجة للازدحام الشديد في المعتقلات. وقد لجأت الحكومة السورية إلى استخدام المدارس ودور السينما، وحتى ملاعب كرة القدم”.
ويجري التعذيب بشكل ممنهج داخل المعتقلات السورية، وبأقسى أشكال التعذيب، البدنية والمعنوية وحتى الجنسية، إضافة إلى “التهديد الفعلي أو اللفظي بإيقاع الأذى بأفراد عائلة المعتقل (..) والتهديد باغتصاب المعتقلات أو قريبات المعتقلين واغتصابهن فعلياً، وفي بعض الأحيان أمام المعتقل” لانتزاع الاعترافات. كما يتم إجبار المعتقلين على الإدلاء بشهادات متلفزة، إضافة إلى إجبار السجناء على “السجود لصور الرئيس، أو إعلان ألوهيته، وشتم المعتقدات الدينية للمعتقل”.
وإلى جانب الشهادات الموثقة للمعتقلين المفرج عنهم أو المنشقين عن أجهزة النظام السوري، فقد انتشرت تسجيلات صورها الجنود والشبيحة بأنفسهم خلال عمليات التعذيب.
وقد سجّلت 212 حالة وفاة تحت التعذيب عام 2011، و865 حالة عام 2012، “إلاّ أن التوقعات تشير إلى أن الأرقام قد تزيد بعشرات الأضعاف عن هذا الرقم”. وفي الحالات التي تمّ توثيقها، سُلّمت الجثث إلى الأهالي وعليها آثار التعذيب القاسي، بما في ذلك الكيّ والصعق الكهربائي وبتر أجزاء الجسم.
سياسة الاختطاف والاغتصاب الممنهجين
“عمد النظام إلى استخدام سياسة اختطاف النساء واغتصابهنّ لمعاقبة المنخرطين في الثورة السورية وعائلاتهم، وقد بلغ عدد حالات الخطف والاغتصاب التي تم توثيقها ما لا يقل عن 1570 حالة، هذا إلى جانب الأساليب السادية والوحشية التي تتعرض لها المعتقلات والمختطفات”.
وبحسب شهادات من جانب الضحايا أو المنشقين عن النظام، فإنّ من يتعرضن للخطف والاعتداء “هنّ الفتيات والنساء المنتميات للمدن والقرى والحارات المعارضة للنظام، ويحدث ذلك على شكل عقوبة فردية أو جماعية في المدن وساحات القرى، أو داخل المنازل أثناء المداهمات، أو داخل الزنازين أو مراكز الاعتقال أو البيوت المخصصة للمختطفات”. و”في كل الحالات التي تم توثيقها، تمّت عمليات الاختطاف والاغتصاب على أساس طائفي، حيث تم اختطاف فتيات من الطائفة السنية وتم اغتصابهن في قرى علوية، أو من قبل ضباط وشبيحة علوية”.
وتهدف هذه السياسة للضغط على النشطاء وانتزاع الاعترافات، “كما تهدف (..) إلى إجبار الأهالي على الفرار من بيوتهم (..) مما ساعد على تفريغ مناطق واسعة في محافظة حمص تحديداً”.
ويشير التقرير في المقابل إلى “معلومات عن حصول عمليات خطف قام بها معارضون للنظام، لكنها حصلت بشكل محدود جداً؛ لتحرير مختطفات لدى الأمن أو الشبيحة، أو لكبح جماح بعض اللواتي يقمن بعمليات الخطف ويساعدن عليه (..) لكن لم تسجّل أي حالة اغتصاب للمختطفات المواليات للنظام”.
استهداف المخابز
علاوة على قطع إمدادات الطحين والوقود اللازمة لتشغيل المخابز، بدأ النظام السوري باستهداف المخابز مع بداية عام 2012 في حمص، ضمن سياسته للعقاب الجماعي للسكان في المناطق الثائرة.
وقد تمّ توثيق 65 حالة لاستهداف المخابز في الفترة التي يغطيها التقرير، كان أكثرها في مدينة حلب بين شهري آب/أغسطس وأيلول/سبتمبر 2012. وقد جرت الغالبية العظمى من عمليات استهداف المخابز أثناء تجمّع المواطنين أمام هذه المخابز لشراء الخبز، مما أوقع عدداً كبيراً من الضحايا في كل مرة. ويؤكد التقرير أن “جرائم استهداف المخابز (تمتلك) كافة أركان جرائم الحرب”.
استهداف المشافي والإمدادات الطبية
قامت القوات الحكومية بقطع الإمدادات الطبية عن المناطق الثائرة، وقامت بمنع الجرحى من الوصول للمشافي. كما تعمّدت استهداف المشافي النظامية والميدانية على حد سواء، إضافة إلى استهداف سيارات الإسعاف والممرضين والأطباء، “فيما يعد جريمة حرب وفقاً لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وانتهاكاً صريحاً للقانون الدولي الإنساني”.
وتعرّض الكثير من المتظاهرين المصابين ممن سعوا للعلاج في المراكز الصحية؛ لمخاطر إلقاء القبض عليهم وانتهاك حقوقهم، وهو ما أجبر الكثير منهم على اللجوء إلى عيادات ميدانية. كما تعرض أطباء وعاملون طبيون للاعتقال والاضطهاد بسبب معالجتهم الجرحى. وفي المقابل، وردت شهادات عديدة عن قيام أطباء وممرضين موالين للنظام بتعذيب الجرحى في المشافي الحكومية.
ويسجّل التقرير وفاة ما لا يقل عن 281 شخصاً نتيجة منعهم من تلقي العلاج، بينما لا يمكن تقدير عدد الذين فقدوا حياتهم أو أصيبوا بأمراض أو عاهات دائمة نتيجة لعدم حصولهم على العلاج.
استهداف وسائل الإعلام والإعلاميين
لم تكتف الحكومة السورية بمنع وسائل الإعلام من الدخول إلى سورية أو السماح لها بالعمل بحرية، بل قامت أيضاً باستهداف الصحفيين بالقتل والاعتقال بشكل مباشر، وقد بلغ عدد الصحفيين والناشطين الإعلاميين الذي قتلوا في سورية خلال فترة التقرير 109 شخصاً، بينهم عدد من الأجانب.
وعلى الجانب الآخر، استُخدمت وسائل الإعلام الحكومية وشبه الحكومية في الترويج لأعمال القتل ضد المتظاهرين. كما استُخدم الإعلامُ السوري الرسمي في عرض اعترافات المعتقلين، حيث يتم تسجيل مقابلات مع الضحايا بعد خضوعهم للتعذيب الشديد.
اللجوء والنزوح
هجر حوالي ثلاثة ملايين شخص بيوتهم، وغادروا إلى مناطق أخرى داخل أو خارج سورية. وتقدر الأمم المتحدة عدد اللاجئين حتى نهاية عام 2012 بحوالي مليون سوري، يتوزّعون في كل من تركيا والأردن ولبنان، بالإضافة إلى أعداد منهم في مصر والعراق ودول أخرى. ولا تشمل هذه الأرقام الذين لم يقوموا بالتسجيل مع المفوضية كلاجئين. ويُضاف إلى هؤلاء حوالي مليون ونصف نازح داخل بلادهم.
وقامت قوات الحكومة بإطلاق النار في حالات متكررة تجاه اللاجئين أثناء محاولتهم عبور الحدود. كما قامت بوضع ألغام في المناطق الحدودية الشمالية.
وقد فتح الأردن وتركيا حدودهما للاجئين من سورية، فيما تعرّض اللاجئون إلى العراق إلى مضايقات من طرف الحكومة التي أغلقت الحدود في وجه القادمين، وتعرّض اللاجئون السوريون في لبنان إلى مضايقات واعتداءات وخطف من حزب الله ومن مجموعات مسلحة قريبة منه.
ويُعاني اللاجئون من أوضاع معيشية صعبة في مخيمات اللجوء، ومن ظروف الحر الشديد صيفاً والبرد القارس شتاء. كما تُعاني المخيمات التي شهدت وفاة عدة أطفال؛ من نقص شديد في الخدمات الصحية.
وفي مصر يعيش أكثر من 50000 لاجئ (حتى نهاية 2012)، ولكن معظمهم غير مسجل كلاجئ مع المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، ويعيشون بإقامات اعتيادية.
استهداف دور العبادة
تعرض 721 مسجداً للضرر خلال الفترة التي يغطيها التقرير. وتراوحت هذه الأضرار ما بين التدمير الكامل أو الجزئي، إلى الاعتداءات في داخل المسجد على الممتلكات وعلى المصاحف. كما “تعرّضت الكنائس المسيحية إلى الاعتداء هي الأخرى، وخاصة في مدينتي حلب وحمص”. وكانت بعض هذه الانتهاكات متعمدة، لكن كان معظمها نتيجة للقصف العشوائي الذي تمارسه قوات الجيش على المدن الثائرة.
الانتهاكات بحق الآثار والأماكن التاريخية
تعرّضت الآثار السورية لدمار كبير. ويصعب إحصاء الأضرار لانتشار الأماكن التاريخية في مختلف مناطق سورية، وخاصة مدينة حلب القديمة التي صنفتها اليونسكو ضمن قائمة التراث الإنساني. لكن لم تبدِ اليونسكو أي ردة فعل على قيام الجيش باستخدام الطائرات والأسلحة الثقيلة لقصف هذه الأماكن، كما لم تقم بنقلها إلى الأماكن المعرّضة للخطر، وهو ما تقوم بفعله بشكل سريع في دول أخرى.
واستُخدمت خمس قلاع أثرية من قبل الجيش السوري كمهابط للطائرات، ومقرات للقناصة وراجمات الصواريخ. وتعرّض 12 متحفاً للتدمير أو للنهب والسرقة بسبب الأوضاع الأمنية، إضافة إلى “عمليات حفر ونبش داخل المناطق الأثرية تقوم بها عصابات بشكل منظم من أجل سرقة الآثار”.
الإصلاحات القانونية والدستورية
وفي المقابل، يشير التقرير إلى “التغييرات القانونية والدستورية الهامة” التي قامت الحكومة السورية، ويصفها بأنها “كانت في مجملها تعديلات إيجابية، وتستجيب لمطالب المنظمات الحقوقية على مدار عقود، وأهمها إلغاء حالة الطوارئ، وإلغاء المادة الثامنة من الدستور، وإلغاء محكمة أمن الدولة”.
لكن التقرير يستدرك بالقول: “هذه التعديلات القانونية لم تكن ذات أثر فعلي، فقد ترافقت مع ما يمكن وصفه بغياب كامل لدولة القانون خلال ذات الفترة، فقد حصلت معظم الانتهاكات التي يوردها التقرير في ظل رفع حالة الطوارئ، بما في ذلك اعمال القتل خارج نطاق القانون والاعتقال التعسفي، وممارسة التعذيب وغيرها من الأعمال الحاطّة بالكرامة”.
للحصول على نسخةٍ من التقرير باللغة العربية اضعط على الرابط التالي:
For the English Report this is the link: Click here